«بهجة» متواضعة للنمو العالمي
"سيبقى 2023 عاما مليئا بالتحديات، وستتواصل الضغوط من عدة جهات"
كريستالينا جورجييفا، رئيسة صندوق النقد الدولي
ليس واضحا تماما شكل ومستوى نمو الاقتصاد العالمي من الآن حتى نهاية العام الجاري. المتغيرات كثيرة، والمسببات الكابحة للنمو لا تزال حاضرة على الساحة، وحالة عدم اليقين صارت منذ ثلاثة أعوام جزءا أصيلا من المشهد العام. يضاف إلى ذلك، المشكلات الدولية التي تبرز هنا وهناك، في أوقات يحتاج فيها اقتصاد العالم، إلى تفاهمات أكبر، وحلول وسط أكثر استدامة. ولا شك في أن "التناحر" الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة، له آثاره المباشرة في وتيرة النمو العالمي. فبينما توقع الصينيون "مثلا" علاقات أكثر هدوءا وانفراجا مع واشنطن، بوصول إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى البيت الأبيض، قبل عامين ونيف، تواصلت العلاقات التجارية المتوترة بين الطرفين على المستوى نفسه الذي كانت عليه في ظل إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب.
وسط هذه الأجواء المشحونة، بما في ذلك تفاقم الحرب في أوكرانيا، وبعض الاضطرابات في النظام المصرفي في كل من الولايات المتحدة وسويسرا وأوروبا، هناك آمال تظهر شيئا فشيئا على صعيد مستقبل النمو بنهاية العام الجاري. آمال ليست قوية بما يكفي لكي نتوقع انفراجا اقتصاديا دوليا كبيرا، لكن يمكن البناء عليها في الأعوام المقبلة، خصوصا إذا لم تظهر "منغصات" جديدة وقوية في المرحلة المقبلة. علما بأن هذه "المنغصات" ليست بعيدة عن الأجواء العامة بصورة أو بأخرى، ويمكن أن تحدث في أي لحظة. تعديلات صندوق النقد الدولي لتوقعاته بشأن النمو لافتة، وإن كانت متواضعة. فقد حدد النمو عند 2.9 في المائة لهذا العام، مضيفا 0.2 في المائة عن توقعات سابقة له في 2022. وهذا يرفد الآمال المعلقة في هذا المجال، بمزيد من قوة الدفع.
لنترك جانبا توقعات 2024 التي حددت بـ3.1 في المائة، لأن المتغيرات لا توفر أي ضمانات بهذا الشأن، حتى إن كانت الفترة الزمنية قصيرة. اللافت في الوقت الراهن، أن الحديث عن ركود عالمي واسع بدأ يتراجع، بما في ذلك في دول مؤثرة في المشهد الاقتصادي العالمي، كانت تستعد لفترة ركود، وإن كانت قصيرة. وهذا يعني، أن معدلات النمو المتداولة أقرب لأن تكون حقيقية. والذي يدعم التفاؤل في أن تتحقق معدلات النمو هذه، أن الاقتصادات المحورية التي تصنع هذا النمو عمليا، تشهد أداء مقبولا، ومن المتوقع أن تواصل هذا الأداء في الفصول المقبلة من العام الجاري، على الرغم من التباطؤ الذي يعد الأشد منذ الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008.
المحرك الصيني للنمو العالمي، ينشط بالفعل، لكن مرة أخرى دون المستوى المعهود لثاني أكبر اقتصاد في العالم. فإذا تمكنت الصين من تحقيق مستهدفها الرسمي للنمو عند حدود 5 في المائة هذا العام، فإن ذلك سيكون بمنزلة قوة دافعة أساسية للنمو العالمي. حتى إن سجل مستوى دون ما هو معلن من قبل الحكومة الصينية، سيكون أيضا عاملا مساعدا على الساحة الدولية عموما. ولا بد من التأكيد، على أن التحديات لا تزال قوية أمام الاقتصاد العالمي، خصوصا تلك الناجمة عن تداعيات جائحة كورونا، وبالطبع تبعات الحرب في أوكرانيا التي تعد الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، ومواصلة البنوك المركزية الرئيسة سياسة التشديد النقدي. وهذه الأخيرة، تسهم مباشرة وبقوة في كبح مسار النمو، في الوقت الذي لا تبدو فيه أي مؤشرات على تراجع هذه البنوك في المدى القصير عن رفع الفائدة، لوقف الارتفاعات التاريخية لمستويات التضخم.
يبقى الأمل معلقا على اقتصادات الصين والولايات المتحدة ومنطقة اليورو، لضمان نمو عالمي بصرف النظر عن مستوياته. المهم ألا تستمر حالة التباطؤ التي مرت بها بعض الدول، ولا تزال أخرى تتعرض لتبعاتها. لا أحد يتوقع أن يسجل النمو في الولايات المتحدة لهذا العام أكثر من 1.4 في المائة. فالضغوط كبيرة على أكبر اقتصاد على مستوى العالم، وإن تمكن اقتصاد البلاد "حتى الآن على الأقل" من البقاء خارج دائرة الركود التي تخيف الإدارة الأمريكية، وتتعاطى معه كـ "غول" لا يرحم. لكن حتى بهذا المستوى المتواضع من النمو، سيكون الأثر كبيرا في الاقتصاد العالمي، خصوصا إذا ما أضفنا المؤشرات الجيدة المقبلة من منطقة اليورو، التي رفعت المفوضية الأوروبية توقعها بشأن النمو فيها للعام الحالي من 0.6 إلى 0.9 في المائة. المستوى متواضع جدا، لكن مرة أخرى ينقذ المنطقة من الركود بلا شك. فحتى بريطانيا التي يعد اقتصادها الأسوأ أداء بين دول مجموعة العشرين، فإنها ستسجل نموا ضعيفا هذا العام.
هذه الأجواء الإيجابية، مع التحفظ على التوصيف، لن تبقى هكذا، إذا ما تعمقت التحديات الراهنة على الساحة الدولية، وإذا ما استمرت استراتيجية التشديد النقدي لفترة طويلة. كان التيسير الكمي الأثر الأهم للنمو العالمي قبل انفجار جائحة كورونا، لكن مرحلة ما يمكن تسميته "المال الرخيص" تحت ضربات الموجة التضخمية العاتية التي لم تهدأ حتى الآن. المهم في هذه المرحلة، الحفاظ على الاقتصاد العالمي خارج الركود، بصرف النظر عن مستويات النمو.