الودائع الرخيصة .. مخلفات الجائحة تكبد البنوك الأمريكية خسائر هائلة
إفلاس سيليكون فالي بانك "إس في بي"، وعمليات البيع الكثيفة في البنوك الأمريكية التي أعقبت ذلك سلطا الضوء على المخاطر الدائمة لاستراتيجية اتبعتها جهات مقرضة كثيرة لزيادة الأرباح عندما كانت أسعار الفائدة منخفضة.
على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، اعتادت البنوك على استثمار ودائع العملاء في الأوراق المالية ذات الدخل الثابت عندما لم تتمكن من إقراضها بربح. كان "إس في بي"، الذي سيطرت عليه السلطات المنظمة الأمريكية الجمعة تحديدا منتهجا هذه الاستراتيجية بقوة: تم استثمار أكثر من نصف أصوله في الأوراق المالية.
لكن بينما قفزت أسعار الفائدة العام الماضي، انخفضت قيمة السندات التي اشترتها البنوك بوفرة ودائعها الرخيصة، الأمر الذي خلف خسائر ورقية تصل إلى 600 مليار دولار. نتيجة لذلك، يرى المستثمرون صورة أفضل للمخاطر التي تقدم عليها بعض البنوك بودائعها الفائضة.
في الحالات المتطرفة، مثلما هي الحال مع "إس في بي"، يمكن أن تؤدي هذه الخسائر الورقية إلى دوامة هلاك، يجبر فيها المودعون القلقون البنوك على تصفية محافظهم الاستثمارية، وتحويل تلك الخسائر الورقية إلى خسائر حقيقية قد تكون كبيرة جدا لا تستطيع بعض البنوك الصغيرة أو حتى متوسطة الحجم التعامل معها. يبدو أن هذا هو ما أفزع المستثمرين في أسهم البنوك في الأيام الأخيرة.
قال جريج هيرتريش، رئيس استراتيجيات الإيداع الأمريكية في شركة نومورا "سأقتبس كلام مدرس الاقتصاد في المدرسة الثانوية، الذي قال (إنه لا يوجد شيء اسمه غداء مجاني). أعتقد أنه كان هناك ميل نحو التفكير في الدخل الإضافي الذي يمكن اكتسابه بامتلاك أصول طويلة الأجل، حتى يلائم هذا القدر الجديد من الودائع المفاجئة".
بدأت من نيسان (أبريل) 2020 وبلغت ذروتها بعد عامين، تدفقت ودائع تقارب 4.2 تريليون دولار إلى البنوك الأمريكية، وفقا لبيانات من مؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية. لكن 10 في المائة فقط من تلك الودائع استخدمت لتمويل قروض جديدة. احتفظت بعض البنوك بهذه الودائع الجديدة نقدا. لكن قدرا كبيرا من هذه الأموال، نحو تريليوني دولار، تم تحويلها إلى أوراق مالية، معظمها من السندات. قبل الجائحة، كانت تملك البنوك ما يربو قليلا على أربعة تريليونات دولار في استثمارات الأوراق المالية. بعدها بعامين، ارتفعت تلك المحافظ 50 في المائة.
لعل ما جعل السندات منخفضة العائد أكثر جاذبية من تمويل قروض جديدة، أو على الأقل سندات الحكومة منخفضة العائد، أو سندات الحكومة المضمونة، هو تصور انخفاض مخاطر الائتمان. درت هذه السندات الجديدة أرباحا للبنوك لفترة. لكن بالنظر إلى الوراء، يبدو الآن أن البنوك ربما كانت تشتري في ذروة السوق. وهو ما يسبب المشكلة الآن. العام الماضي، انخفضت قيمة محافظ سندات البنوك، ما تسبب في خسائر بلغت نحو 600 مليار دولار، لكن لأن البنوك لا تبيع سنداتها دوريا، كثير من هذه الخسائر غير محققة بعد.
قال كريستوفر والين، محلل مصرفي منذ فترة طويلة ورئيس شركة والين جلوبال أدفايزرز الاستشارية "غطت البنوك في النوم. لم يتوقع أحد هذا التضخم المستمر. البنوك التي تملك سجلات سندات خزانة كبيرة تعاني النصيب الأكبر من المشكلات".
من بين البنوك الكبرى، كان "جيه بي مورجان" أكثر حذرا من غيره. حين كانت أسعار الفائدة منخفضة، أخبر جيمي ديمون الرئيس التنفيذي المستثمرين بأنه "من الصعب تبرير سعر السندات الأمريكية" وأنه "لن يقترب من سندات الخزانة أبدا". في حين حصل "جيه بي مورجان" على ما يربو قليلا على 700 مليار دولار من الودائع الجديدة بعد الجائحة، ارتفعت حيازاته من الأوراق المالية خلال تلك الفترة 200 مليار دولار فقط.
لكن مع ارتفاع ودائع "بانك أوف أمريكا" 500 مليار دولار بعد بداية الجائحة، ارتفعت حيازاته من السندات بالسرعة نفسها تقريبا، إذ ارتفعت نحو 480 مليار دولار. نتيجة لذلك، ارتفعت خسائر "بانك أوف أمريكا" العام الماضي في محفظة أوراقه المالية إلى ما يزيد قليلا على 110 مليارات دولار، أو أكثر من ضعف الخسائر المسجلة في "ويلز فارجو" و"جيه بي مورجان" البالغة 50 مليار دولار تقريبا.
مع ذلك، يشير محللون إلى إمكانية تفادي الخسائر لمعظم البنوك، وذلك باحتفاظها بالأوراق المالية حتى تاريخ الاستحقاق. ينطبق هذا تحديدا على أكبر البنوك في الدولة، التي يمكنها الاعتماد على تمويل المؤسسات لتغطية التدفقات الخارجة في الودائع، التي تظل فيها الخسائر في الأوراق المالية صغيرة مقارنة بحجمها الإجمالي. لكن، في الوقت الذي تضطر فيه البنوك إلى تقديم أسعار فائدة أعلى للمودعين، حقيقة لزوم احتفاظها بالسندات منخفضة العائد من أجل تجنب هذه الخسائر من المرجح أن تقلص أرباحها.
قال جيرارد كاسيدي، محلل مصرفي في شركة آر بي سي سيكيوريتيز لإدارة الأصول "نعتقد أن البنوك الكبرى ستكون على ما يرام هذا العام. هي رياح معاكسة بالتأكيد".
لكن ما هو مجرد رياح معاكسة لأكبر البنوك في الدولة يمكن أن يكون بمنزلة إعصار لبعض البنوك الأصغر التي تراهن بشدة على محافظها من السندات. هذا ما حدث إلى حد كبير في "إس في بي"، الذي راكم 15 مليار دولار من الخسائر في محفظته من السندات، أي أقل بقليل من القيمة الإجمالية للبنك.
مثلا، راكم بنك "باكويست"، مقره بيفرلي هيلز في ولاية كاليفورنيا، خسائر بقيمة مليار دولار في محفظة سنداته، وهو ما يكفي لشطب أكثر من ربع أسهمه البالغة أربعة مليارات دولار. انخفضت أسهم "باكويست" 50 في المائة الأسبوع ما قبل الماضي.
قال والين "معظم البنوك ليست معسرة. لكن كل بنك يتكبد خسائر".