سياحة الأرجنتين .. تسلح بالنقود من فئة 100 دولار
إن جميع الدولارات متساوية، لكن بعض فئات الدولارات متساوية أكثر من غيرها. على الأقل هذه هي الحال في الأرجنتين بالتأكيد، حيث تشتري ورقة واحدة من فئة المائة دولار من عملة البيزو أكثر مما تشتريه ورقتان من فئة 50 دولارا أو -حتى أسوأ من ذلك- تشتري أكثر من حزمة من 20 ورقة من فئة خمسة دولارات.
كان الأصدقاء الأرجنتينيون واضحين وأنا في طريقي إليهم: "عيشي يومك وعيشي بالدولار. اتركي بطاقتك الائتمانية في محفظتك، ولا تقتربي من جهاز الصراف الآلي، وتعالي متسلحة بدولارات أمريكية نقدا يمكنك تغييرها في البلد إلى بيزو. لا تحضري أي دولارات، بل الأوراق من فئة المائة دولار". لم يكونوا يبالغون في الأمر.
إن الاحتفاظ بالعملة المحلية في اقتصاد يشهد تضخما سريعا يشبه إلى حد ما محاولة النزول على سلم كهربائي وهو صاعد، أو كما يقول أوجستين أرياس، صاحب أحد أقدم المزارع في البلاد، دي لا لانزاس في بلدة إل بوردو بالقرب من سالتا في الشمال "ترتفع الأسعار بسرعة أكبر من ارتفاع الرواتب".
بالنسبة إلى الأرجنتينيين، يبدو التضخم من خانتين الذي أصاب بريطانيا ضئيلا. فالتضخم، الذي بلغ 3000 في المائة في 1989، وصل العام الماضي إلى أعلى مستوى له في ثلاثة عقود بنسبة 95 في المائة. كنت قد سمعت عن شخص غطى جدرانه بنقود من فئة عشرة بيزوات، لأنها أرخص من شراء ورق الجدران. وما يزيد الأمر سوءا أن الرئيس ألبرتو فيرنانديز ادعى في كانون الثاني (يناير)، أن "جزءا كبيرا" من ارتفاع الأسعار "نشأ ذاتيا، إنه موجود في عقول الناس". ربما يكون من نسج الخيال أن ترتفع الأسعار فعليا بمعدل يراوح بين 4 إلى 6 في المائة شهريا.
إن التضخم متأصل في الحياة اليومية لدرجة أن الأرجنتينيين يتحدثون عنه بالطريقة نفسها التي يتحدث بها الإنجليز عن الطقس. ولحماية أنفسهم من تراجع القوة الشرائية، يقوم الأرجنتينيون بشراء الدولارات. في 2020، قدر بنك بانكو سنترال دي لا ريبابليكا أرجنتينا "بي سي آر أيه" أن الأرجنتينيين يحتفظون في البلاد بمبلغ 170 مليار دولار نقدا، أو 10 في المائة من إجمالي الدولارات المتداولة في العالم، وخمسها خارج الولايات المتحدة.
إن تخزين الدولارات -وهو مثل يضرب في إخفاء النقود تحت المرتبة- يعد هواية وطنية محفورة في الأذهان منذ سن مبكرة جدا. فعندما كنت أنتقل مع أرياس في إحدى الأمسيات عبر حقول التبغ بالقرب من إلبوردو، مع جاوتشو خوسيه ماريا جالاردو صاحب مزرعة الماشية، أخبرني أرياس كيف تلقى ابنه ذو الأعوام السبعة أخيرا ورقة نقدية من فئة ألف بيزو "أقل من ثلاثة دولارات" من جنِّية الأسنان. وعلى الفور، صرح الطفل بأنه بحاجة إلى تحويل البيزوات إلى دولارات.
طبعا من وجهة نظر المسافر، إن التضخم السريع في العملة المحلية من مصلحتك، لأنه يعني أن قيمة دولاراتك سترتفع أكثر من ذلك مع مرور الوقت أثناء الرحلة. لكن للاستفادة من ذلك، فهذا يعني أن تستبدل النقود من فئة المائة دولار عند حاجتك إليها. وهي ليست بالمسألة المباشرة تماما.
على عكس معظم الدول الأخرى، تتمتع الأرجنتين بسعر صرف مربوط بشكل مصطنع، ما يعني أنه يتم تحديده بموجب تفويض حكومي عوضا عن الطلب من السوق. تم رفع قيود رأس المال وإعادة العمل بها عدة مرات خلال العقود القليلة الماضية. ففي 2019، فرضت القيود على الأرجنتينيين بشراء 200 دولار شهريا بالسعر الرسمي، بما في ذلك مشتريات البطاقات بالعملة الأجنبية، وجعلت من الصعب للغاية نقل الأموال خارج البلاد. "لا عجب أن يرى كثير منهم أن الرهان على العملات المشفرة أكثر أمانا من عملتهم".
السوق السوداء للعملات -التي يتم تداولها في محال الصرافة غير القانونية أو الكهوف، وبالأحرى تسمى الدولار الأزرق بشكل يدعو إلى الإرباك- هي جزء من اقتصاد سري كبير. في الوقت الحالي، يعد سعر الدولار الأزرق قويا جدا لدرجة أنه إذا تجنبت استخدام سعر الصرف الرسمي، فستتمكن من مضاعفة أموالك. في محاولة لانتزاع حصة من مليارات الدولارات من عائدات السياحة التي تفقد كل عام بسبب الاقتصاد غير الرسمي، أطلق البنك المركزي الأرجنتيني في أواخر العام الماضي سعرا تفضيليا للسياح الأجانب. هذا يعني أن المدفوعات التي تتم باستخدام بطاقات الائتمان الأجنبية تستخدم سعر صرف الدولار "إم إي بي" ("سوق الدفع الإلكتروني")، الذي يعد أسوأ بقليل من سعر صرف الدولار الأزرق.
لكن على الرغم من أن الدولار الأزرق غير قانوني اسميا، إلا أنه منتشر في كل مكان بحيث تتم مناقشة المكان الذي قد تحصل فيه على أفضل سعر بشكل عرضي مثلما تتم مقارنة مقدمي الحسابات الجارية أو تلك الأسعار التي تقدمها شركات التكنولوجيا المالية المختلفة القائمة على التطبيقات مثل مونزو وريفولت.
يتجول تجار العملات في شارع كالي فلوريدا الضيق والمخصص للمشاة، حيث يمثل مركز السوق السوداء في بوينس آيرس وهم ينادون "صرافة، صرافة" في منافسة على الأعمال التجارية. في أوج أيام المدينة في أوائل القرن الـ20، كان الشارع هو الموطن للفرع الخارجي الوحيد لمتجر هارودز متعدد الأقسام. تم إغلاقه نهائيا قبل نحو 25 عاما، إلا أن اللافتات على المبنى ما زالت موجودة عليه. بعد التفاوض على السعر، يدخل رجل إلى مكتب صغير خارج الشارع لصرف دولاراته. وعلى بعد أمتار فقط، يقف شرطيان يدخنان ويتحدثان، وهما على ما يبدو غافلان عما يجري.
يسهل العثور على مكاتب الصرافة وفروع ويسترن يونيون في بوينس آيرس. لكن سرعان ما تعلمت أنه من الخطأ الافتراض أنه لمجرد أنك عثرت على مكتب ويسترن يونيون -أو وصلت أخيرا إلى مقدمة طابور الانتظار- أن متاعبك انتهت. ففي عدة مناسبات، ينفد البيزو من المحل. "عندما تكون القيمة لأكبر ورقة نقدية في البلاد بقيمة ألف بيزو أقل من ثلاثة دولارات، وعندما يكون الناس معتادين على حمل حقائب نقدية لشراء مبالغ كبيرة، يمكنك حينها أن تفهم لماذا يحدث ذلك".
في مرة أخرى، تم إبعادي عن ويسترن يونيون لأنه قيل لي "إنه مخصص للسحب النقدي فقط، وليس لصرف العملات". لكن بعد أن سمع رجل متقاعد في الطابور عن ضائقتي جاء لإنقاذي، وأخرج رزمة من البيزو عارضا علي استبدال مائة دولار بسعر الدولار الأزرق.
لكن الأسوأ لم يأت بعد. فعندما كنت في مدينة إلكالافاتى في جنوب باتاجونيا، اصطففت ذات صباح في الطابور عند مكتب ويسترن يونيون لأكثر من ساعتين. وكان الطابور أطول حتى من الطابور عند مطعم دون خوليو، وهو أحد أفضل مطاعم الشواء في بوينس آيرس. لكن على عكس مطعم دون خوليو، لم يحدث أن تم التخفيف من عناء الانتظار من قبل النوادل الذين يوزعون فطائر الإمبانادا الدافئة وأكوابا من النبيذ الفوار.
أخيرا عندما وصلت إلى مقدمة طابور الانتظار، قيل لي ما أثار سخطي إنهم لن يصرفوا الدولارات. بعد ذلك بعثت برسالة واتساب لصديقي هاري هاستينجز، الذي يدير شركة للسفر. ليوجهني بعدها إلى مطعم يبعد دقيقتين سيرا على الأقدام. سألت النادل عن مكان الصرافة فأشار إلى الطابق العلوي. وجدت هناك امرأة جالسة خلف طاولة في غرفة بلا نوافذ ليست أكبر بكثير من خزانة المكنسة. كانت لديها آلة عد نقدي وآلة حاسبة وعلى الطاولة كانت أمامها حزم من فئة الألف بيزو، وكانت مصففة مثل قطع لعبة الجينجا. واجهت اختلافات في هذا الموضوع في جميع أنحاء البلاد، ولا سيما في جنوب باتاجونيا حيث كانت الخيارات هناك لصرف الدولارات أقل، وقد شعرت أحيانا بأن سعر الصرف كان يعتمد كليا على الشخص الذي تسأله وفي أي يوم.
كما لو أن صرف العملة المزدوجة لا يكفي لمواجهة ذلك، فإن الأرجنتين لديها نحو 15 سعر صرف مختلفا، بما في ذلك "دولار الصويا" لصادرات الصويا، و "دولار قطر" للسياح الأرجنتينيين الذين سافروا ليشاهدوا كأس العالم العام الماضي، وحتى "دولار كولد بلي"، وهو سعر صرف خاص يدفع للفنانين الأجانب الذين صنعوا اسما للفرقة عندما أقامت سلسلة من الحفلات الموسيقية التي بيعت تذاكرها كلها العام الماضي.
بحلول نهاية رحلتي التي استغرقت شهرا، بدأت بدعة تداول العملات في السوق السوداء ومحاولة البقاء متقدمين بخطوة على التضخم المتفشي في التلاشي. قال سايمون كوزنتس، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد في 1971 عن أعماله في مجال النمو، "إن هناك أربعة أنواع من البلدان في العالم، المتقدمة، وغير المتطورة، واليابان، والأرجنتين. وعندما بدأت رحلة العودة الطويلة إلى الوطن، ظللت أفكر في معضلة قدرة البلاد على تبديد الفرص غير العادية إلى ما لا نهاية.
بالعودة إلى لندن، اتصلت برجل يعرف كثيرا عن التعايش مع التضخم. مارتن لوستو، وهو اقتصادي أرجنتيني ووزير سابق للاقتصاد، درس الاقتصاد خلال التضخم الجامح في عام 1989. إنه من المعارضة السياسية وهو الآن عضو في مجلس الشيوخ عن بوينس آيرس. يقول "لقد اعتدنا على ذلك، لكنه يستهلك كثيرا من الوقت والمال والطاقة العقلية". أعرف ذلك وأتفق معك.