التجارة العالمية .. ماذا تحقق؟
منذ عقود طويلة وتحديدا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، تم الترويج للتجارة العالمية الحرة وكأنها جنة الاقتصاد الموعودة، وكان الاتحاد السوفييتي بكل ما يحمله من مفاهيم يسارية واشتراكية اقتصادية يقف حائلا أمام العالم، وهذه الجنان من التجارة العالمية الحرة، وبالطبع كانت الولايات المتحدة عراب تلك الحرية التجارية، وحرية حركة رؤوس الأموال. ومع نهاية 2021 يبلغ حجم التجارة العالمية نحو 43 ضعف المستوى المسجل في الأيام الأولى لاتفاقية الجات "نمو بنسبة 4300 في المائة من 1950 إلى 2021"، وتضخمت قيم التجارة العالمية اليوم بما يقرب من 347 مرة من مستويات 1950، توسع حجم وقيمة التجارة العالمية بنسبة 4 و6 في المائة على التوالي في المتوسط منذ إنشاء منظمة التجارة العالمية في 1995، ويبلغ متوسط التعريفات المطبقة حاليا في الدولة الأولى بالرعاية في العالم 9 في المائة.
لكن رغم ذلك فلم يمر منتصف العقد الثاني من القرن الـ21 حتى بدت أحلام التجارة العالمية تتبدد، فقد فاز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية من خلال وعد بفرض رسوم جمركية بنسبة 20 في المائة على الواردات، وبناء جدار لإبعاد المهاجرين المكسيكيين، وإعادة التفاوض بشأن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا"، ولم تكن الاتجاهات مختلفة كثيرا في الجهة المقابلة من المحيط الأطلسي، ففي الجولة الأولى من التصويت لعام 2016 في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وجدت المرشحة مارين لوبان اليمينية دعما قويا مع وعودها بمغادرة الاتحاد الأوروبي وصوت الأغلبية لمصلحة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في حزيران (يونيو) 2016.
وتشير هذه الأحداث المنفصلة إلى عودة الحمائية، والسبب كما تشير عديد من الدراسات التي استقصت الأسباب الكامنة في هذه التحولات إلى أن المناطق الأكثر تعرضا للتجارة مع الدول ذات الأجور المنخفضة زادت من حصص التصويت التي تذهب إلى أحزاب اليمين المتطرف، وكانت أصوات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أكثر ارتباطا بالانكشاف المحلي للتجارة مع الصين، وفي دراسة عن الولايات المتحدة بين عامي 2002 و2010 أظهرت النتائج أن التعرض المتزايد للتجارة مع الصين كان مرتبطا بالتحول نحو اليمين المتطرف واليسار المتطرف، لهذا لم يكن من باب المصادفة أن تتبنى الحكومات الأمريكية مواقف اقتصادية وتجارية حمائية، واتخذ عديدا من القيود التي تعيق التبادل التجاري الحر مع أكبر شركاء بلاده التجاريين -الصين والاتحاد الأوروبي- فرغم تغير الإدارة الأمريكية ووصول الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، فإن إدارة بايدن لم تلغ تدابير إدارة ترمب التجارية، وكأنها متفقة معها تماما.
اليوم يرى كثيرون أن منظمة التجارة العالمية لم تستطع تحقيق أي تحرير تجاري مهم ومتعدد الأطراف، وهناك عديد من الدول النامية لم تعد سعيدة مع منظمة التجارة العالمية، بينما تتنامى الاتفاقات التجارية الثنائية والثلاثية ومتعددة الأطراف بما يطغى على أهمية منظمة التجارة العالمية، فهناك اليوم أكثر من 40 كتلة تجارية مثل بريكست والآسيوي ومجموعة الثماني وهذه الكتل التجارية تعمل بشكل حثيث على إعادة تعريف التجارة العالمية، و"إزالة العولمة" حيث تحاول كل دولة الآن تحقيق الاكتفاء الذاتي وزيادة الصادرات وتقليل الواردات.
وفي استطلاع أجرته "الاقتصادية" حول مدى خطورة هذه الاتجاهات واحتمالات تعرض العالم للحروب التجارية على أساس أن الدول تميل إلى الانتقام من خلال إقامة حواجز تجارية متزايدة وفرض تعريفات تميزية على الواردات. وهذا ما تؤيده أستاذة النظم الاستثمارية في جامعة جلاسكو أن الاستثمارات الدولية تواجه اليوم عوائق مع تبني السلطات الأمريكية وحكومات الدول الأوروبية وبريطانيا وحتى الصين قوانين وتدابير لمراجعة الاستثمارات الخارجية تحت ذريعة الأمن القومي، لكن يرى خبراء آخرون أن العولمة كفكرة مرتبطة بالتجارة الحرة لا تزال تتمتع بقبول كبير، وأن ما يحدث ليس تراجعا عن فكرتها، بل إعادة لتنظيم العولمة ومن ثم التجارة الحرة، وليس التخلي عنها، حيث يؤكد الاستشاريون في منظمة التجارة العالمية أن التجارة الحرة وحركة رؤوس الأموال لم تنته، لكنها تأخذ أشكالا جديدة تعتمد أكثر فأكثر على الروابط الإقليمية وصياغة تشكيلات للتكتلات الاقتصادية للقطاعات الحساسة والمهمة، فالتخلي التام عن التجارة الحرة والعولمة أمر ليس قابلا للتحقيق ولا مرغوبا فيه بين الشركاء.
ويرى الخبراء أن هناك صيغا تجارية جديدة للتعاون الدولي، لكن الشكل النهائي لها مرتهن بتراجع اضطرابات سلاسل التوريد وحل مشكلة ازدحام الموانئ في الولايات المتحدة والصين، وانخفاض تكاليف الشحن إلى مستويات ما قبل وباء فيروس كورونا، كما يرى البعض أن الحرب الروسية - الأوكرانية تجبر الجميع على التزام الصمت في الوقت الراهن. وخلاصة الأمر فإن مؤشرات الاقتصاد العالمي وحركة التجارة الدولية تحتاج حاليا إلى دفعة جديدة قوية لترسية مفاهيم وقيم متجددة تستفيد منها معظم الدول، ولا تبقى تحت هيمنة وسيطرة واحتكار القوى ذوي الاتجاه الواحد.