الصحافة الثقافية.. مشتل إنتاج النخب
رافقت الاكتساح الرقمي لكل مجالات الحياة موجات عاتية من التفاهة، فما توفره التكنولوجيا من أفضليات في الولوج والتعاطي، سهل انتشار الغباء والفهلوة. واقع فرض البحث عن مضادات التسطيح والضحالة، فانبرى السؤال عن الصحافة الثقافية باعتبارها منارة مضيئة، بمقدورها مقاومة هذا المد الجارف، بطرح رؤى عميقة وتقديم مقاربات أخرى من داخل الحقل الثقافي، تساعد على فهم واستيعاب المتعين أولا، قبل البحث ثانيا في المداخل الممكنة للإصلاح أو حتى السبل الكفيلة للتجاوز.
قد يبدو هذا المطلب مستحيلا في نظر كثيرين، اعتبارا لواقع الصحافة الورقية بصفة عامة، والصحافة الثقافية بوجه خاص. ما من شك أن يستكثر هذا الأمر عليها، غير عارف بتاريخ الصحافة الثقافية ولا مطلع على أمجادها في العالم العربي. فحتى وقت قريب، كانت هذه الصحافة بالذات مشتل إنتاج النخب المثقفة. فضلا عن كونها جسرا للتواصل والنقاش، بشأن قضايا الإبداع الأدبي والفني، على امتداد الوطن العربي، فصفحاتها أقرب إلى منابر تشد إليها أنظار الخاصة والعامة من المشرق والمغرب.
تاريخيا، ظهرت بواكير هذا النمط الصحافي، منذ أواسط القرن 19، في عدد من دول المشرق العربي، مثل: لبنان ومصر وسورية... واقتصرت الفكرة، في بداياتها، على نشر إبداعات أدبية. وسجلت صحيفة "حديقة الأخبار" اللبنانية قصب السبق بنشرها، 1859، أجزاء متعاقبة من رواية "وي. إذن لست بإفرنجي" التي عدها كثيرون أول رواية في تاريخ العرب، لمؤسس ومالك الجريدة، الأديب خليل الخوري (1836-1907).
بعد ذلك بعقد، سيعزز الأديب سليم البستاني، نجل المبدع بطرس البستاني، حضور الأدب في الصحافة بإصدار مجلة "الجنان"، في 1870، لنشر المعارف والعلوم والثقافة والأدب دون اهتمام بالأخبار والأحداث السياسية. وكشف عن ذلك في افتتاحية العدد الأول بقوله: "... ولم تزل لغتنا معدومة واسطة من الوسائط الكبرى لنشر المعارف العمومية من علمية وأدبية وتاريخية وصناعية وتجارية ومدنية، وغير ذلك من النبذ والملح الأدبية مما هو جار في البلدان الأجنبية، وقد ظهرت فوائده للخاص والعام، لأنه فضلا أنه يكون وسيلة لتنشيط المعارف العمومية وتقوية أركانها بين المجهور... يفتح بابا لأصحاب المعارف وميدانا يجول فيه قلم المهرة من أصحاب القلم".
هكذا بدأت الصحافة الثقافة في العالم العربي، ثم تطورت بشكل مرن يأخذ بعين الاعتبار متغيرات الواقع. ويعمل، بالموازاة مع ذلك، على تقديم إجابات واجتراح حلول من منظور ثقافي لقضايا وتعقيدات الواقع العربي. وقد استطاعت المزج في مهمتها بين التثقيف والتوعية والتنشيط الثقافي لدى العوام، والحوار والتناظر والمساجلة بالنسبة إلى الخاصة، من مثقفين ومبدعين ومفكرين، ممن كانت الصفحات الثقافية بالنسبة إليهم موائد يبسطون فيها أفكارهم ومواقفهم ورؤاهم بين يدي إخوانهم في قبيلة المثقفين، وبين أمام أنظار الجماهير.
شواهد وحقائق أعادت السؤال حول الصحافة الثقافية التي تراجعت لمصلحة الصحافة الإخبارية، في زمن تشهد فيه الصحافة على وقع تحولات كبرى، حتى شاعت بين الصحافيين مقولة مفادها أن "الصحافة الثقافية رهان صعب"، لحاجة المؤسسة الصحافية إلى أقلام متخصصة في الشأن الثقافي، بعدما كانت مهمة إنتاج المواد الثقافية في السابق مسندة إلى أهل الاختصاص، وهم في الأساس مفكرون وأدباء ومبدعون وشعراء وقصاص. إضافة إلى الجهد الكبير المطلوب من أجل تصريف هذه الفنون في قوالب وصيغ تناسب التلقي اليوم للمواد الصحافية.
تبقى هذه الدفوع موضع أخذ ورد، فابتعاد المبدعين عن تولي مهام شؤون الصحافة الثقافة نقطة قوة لا ضعف. فقد أسقط عنها الطابع النخبوي لمصلحة دور جديد، يتولى فيه صحافي الشأن الثقافي مهمة الوسيط بين عوالم النخب الثقافية وعموم جمهور القراء، بلغة بسيطة وأسلوب جزل، يقدم المادة الثقافية كأنها وجبة خفيفة للتناول بين يدي القارئ، دون استغراق في دسم المنطق والخطاب الأكاديمي.
كما يعزز هذا الإسناد تنوعا في الطرح، بالإبداع في الموضوعات المطروقة، وباعتماد زوايا نظر ومقاربات مختلفة، بعيدا عن التضييق الذي يفرضه الأديب والمثقف، من منطلق ضرورة الوفاء للتخصص وضوابط المنهج وقيود القواعد... وغير ذلك، ما يجعل المواد الثقافية في الصحافة أقرب إلى مذكرات جامعية أو كراسة أكاديمية. بذلك، تصبح تلك الصفحات الغنية بموادها بستانا متلألأ فواحا بدل أن تكون حقل زرع واحد.
صحيح أن ما سبق يحمل كثيرا من الوجاهة، يقول أحدهم، لكن ما الحاجة اليوم إلى الصحافة الثقافية؟ بعد أن صارت منصات التواصل الاجتماعي تلتهم تدريجيا وظائف الصحافة الثقافية، بدءا بإتاحة الجميع دون تمييز فرصة لإنتاج مواد "ثقافية وإبداعية" (نثر، شعر، سينما، فن...) ونشرها على صفحته بأقل تكلفة ممكنة، بعيدا عن توجيه وتدقيق ورقابة المشرف على الصفحة، وموافقة رئيس تحرير الصحيفة من بعده.
الجواب عن هذا السؤال يكون بسؤال آخر، مفاده هل هذا هو الدور الوحيد للصحافة الثقافية؟ طبعا لا، فوظيفة النشر جزء فقط من كل ما يتداخل ويتناغم من أجل صناعة تقديم منتوج ثقافي. ثم هل يستوي الوقع والقيمة الإبداعية للنشر في منصات التواصل الاجتماعي، مهما حصد من مشاركات وتسجيل إعجاب، مع نشر آخر في مؤسسة صحيفة، وفق أدبيات وضوابط محددة.
بعيدا عن كل ذلك، أليست الثقافة هي العمود الفقري لكل مقاربة صحافية، وهل باستطاعة أحد الزعم بكونه قادرا على فصل الصحافة والثقافة إحداهما عن الأخرى؟ لن ينكر إلا جاحد التأثير الكبير لثورة المعلوماتية والتطور التكنولوجي في الصحافة الثقافية. لكن هذا لا يعني مطلقا المسارعة إلى القول بأفول نجم هذه الصحافة، فالمؤشرات والأرقام تفيد بأن الصناعات الإبداعية إحدى أسرع الصناعات نموا في العالم، والأقل تأثرا بالأزمات العالمية والمالية. والصحافة الثقافية جزء لا يتجزأ من الصناعة الثقافية والإبداعية، ما يثبت الحاجة الماسة إلى التطور والتكيف بغية ضمان المواكبة والاستمرارية.
وذلك لأجل بلورة إجابات عن أسئلة الحاضر، فكما أجابت الصحافة الثقافية في أزمنة غابرة عن أسئلة التنوير والاستعمار والتحرير وما بعد الاستعمار... حان الوقت لتضطلع من جديد بأدوارها في ضوء تقلبات الواقع. فرغم الوهن والضعف لا تزال قادرة على تشخيص أعطاب مشهد عربي معتل، توشك فيه إنفلونزا التفاهة أن تصبح مزمنة.