مخرجات التعليم .. المهارات أولا
المواءمة بين سوق العمل ومخرجات التعليم قضية عالمية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فهناك حالة من القلق بشأن ما تقدمه الجامعات من مهارات ومقررات تعليمية وبين ما تتطلبه سوق العمل، وتستخدم منظمة العمل الدولية مصطلح "عدم تطابق المهارات"، الذي تعني به التناقض بين المهارات التي يبحث عنها أصحاب العمل والمهارات التي يمتلكها الأفراد من خلال خلفيتهم الأكاديمية، وهذا يعني أن التعليم والتدريب لا يوفران المهارات المطلوبة في سوق العمل، أو أن الاقتصاد لا يصنع وظائف تتوافق مع مهارات الأفراد.
وعلى هذا يتم تقسيم القضية إلى عدة قضايا فرعية ومتشعبة، فقد يكون الشخص مؤهلا أكثر من اللازم، لكنه ذو مهارات ناقصة في الوقت نفسه، وهذا يحدث عندما لا يتوافق مجال التعليم مع مجالات المهنة التي يوفرها الاقتصاد، أو أن يكون هناك تقادم في المهارات عندما لا تتم ممارستها بانتظام، وتصبح قديمة بمرور الوقت، كما تسبب أضرارا على المستوى الفردي للأشخاص يصل إلى مستوى عدم الرضا الوظيفي.
وبالنسبة إلى المؤسسات، فإن عدم تطابق المهارات له عواقب على قدرتها الإنتاجية وارتفاع معدل دوران الموظفين.
وفي تقرير نشرته "الاقتصادية" عن مشكلة عدم تطابق المهارات التي تواجه الولايات المتحدة مقابل مشاريع طموحة لإعادة بناء صناعة أشباه الموصلات، يشير إلى أن خريجين في أمريكا يتكبدون ديونا تصل إلى أكثر من 37 ألف دولار للطالب، مقارنة بفرص عمل مخيبة للآمال، أي أنها مشكلة من النوع الأول، حيث يكون الشخص مؤهلا أكثر من اللازم وذا مهارات ناقصة في الوقت نفسه.
الولايات المتحدة ضمن استراتيجيتها الصناعية تسعى إلى استعادة قطاع تصنيع الرقائق المتعلقة بأشباه الموصلات من خلال منح الشركات تخفيضا ضريبيا وحوافز تبلغ 39 مليار دولار، وذلك بعد أن فقدت الولايات المتحدة دورها كمصنع لهذه الرقائق، ما يجعلها تحت ضغوط عالمية انكشفت لها بعد أزمة سلاسل الإمداد نتيجة انتشار فيروس كورونا من جانب، والنزاع التجاري مع الصين من جانب آخر.
وبينما تضاعفت صناعة الرقائق العالمية ثلاث مرات في الـ20 عاما الماضية، إلا أن عدد الأمريكيين العاملين في الصناعة انخفض بمقدار الثلث، والسبب أن أمريكا خلال هذه المدة الطويلة قد اختارت تجنب صناعة الرقائق، والتخصص في الملكية الفكرية لتصميم الرقائق، وهي الاستراتيجية التي كانت معروفة باسم "الإنتاج بلا مصانع"، لكنها تسببت في حدوث فجوة المهارات، وفقدت الولايات المتحدة مهارات عديدة في المهن، بعد تقليص البرامج المهنية منذ السبعينيات الميلادية من القرن الماضي.
ومع إسناد عناصر العمل الصناعي إلى جهات خارجية، على اعتبار أن ذلك جزء من تحرير التجارة العالمية، تم كسر الروابط الطبيعية بين العمل الذهني والعمل اليدوي.
ومن اللافت ذلك الرابط الواضح بين التخطيط الاستراتيجي وبين الدعم والمحفزات، وبين الاتجاهات لسد الفجوة بين المهارات وبين سوق العمل في الولايات المتحدة، فالطريق شبه معبد بين الإصلاح في كلا الجانبين في سوق العمل من جانب، وفي التعليم والمهارات من جانب آخر، هذه المواءمة أو المعالجة الصحيحة لقضية عدم تطابق المهارات، فلقد كانت تصريحات التجارة الأمريكية شديدة الوضوح بشأن الشركات، التي تريد إعانات، حيث هي نقطة البداية، وليست الجامعات وليس المجتمع، بل هي الشركات التي ستحصل على الدعم التي سيتعين عليها أن تثبت في طلباتها أنها لا تتودد إلى هؤلاء العمال فحسب، بل تعمل مع المؤسسات التعليمية بمختلف أنواعها، بدءا من الجامعات وبرامج الدراسات العليا إلى كليات المجتمع والمدارس الثانوية، لإيجاد قوة عاملة "مستعدة للعمل من اليوم الأول".
فالاستراتيجية الصناعية الأمريكية القائمة على إعادة صناعة الرقائق تتطلب الميكانيكيين والنجارين والمقاولين والفنيين، الذين سيبنون منشآت التصنيع الجديدة وزيادة عدد خريجي الجامعات في المجالات المتعلقة بأشباه الموصلات، مثل الهندسة، ثلاثة أضعاف خلال العقد المقبل.
وفي ظل الأوضاع الاقتصادية والتحولات الكبرى التي تعيشها دول العالم، خصوصا بعد الجائحة والحرب الروسية – الأوكرانية، يبقى التركيز على التعليم في الجوانب الفنية والتقنية حاجة ملحة للدول والشعوب خلال العقود القليلة المقبلة، وسيمثل التنوع في التخصصات مفتاحا لسد فجوة المهارات وتجديدها أيضا.
ومما لا شك فيه أن خريجي التخصصات الفنية والتقنية خاصة أصحاب المهارات العالية يسهمون في دعم الخطط التنموية للدول، كما توفر للراغبين منهم وتمكنهم من تأسيس أعمالهم الخاصة بفرص كبيرة وعوائد مربحة.