لماذا تهرب الشركات من لندن؟

لماذا تهرب الشركات من لندن؟

يرسم مزيد من الشركات البريطانية خططا لتحويل الإدراج في سوق الأسهم إلى الولايات المتحدة، كما يقول مصرفيون، وذلك في نزوح جماعي متزايد يهدد بتقويض جهود لندن لتنصيب نفسها مركزا حيويا للأسهم العالمية.
أصبحت "سي آر إتش"، أكبر شركة لمواد البناء في العالم، يوم الخميس أحدث شركة تسعى للخروج من لندن، متبعة خطى مجموعة المقامرة فلتر التي من المقرر أن يصوت مساهموها على إدراج ثانوي في الولايات المتحدة في نيسان (أبريل).
تناقش مجالس إدارة شركات أخرى خطوات مشابهة، إذ تجذبها سوق أكبر وأعمق، وتقييمات أعلى، واحتمال وجود حكومة مستعدة لإنفاق مئات المليارات من الدولارات على البنية التحتية، وفقا لكبار المصرفيين الاستثماريين.
تؤكد سلسلة من عمليات المغادرة والانتقالات المرتقبة من لندن على صعوبة جذب المملكة المتحدة للشركات والاحتفاظ بها، على الرغم من محاولات الحكومة البريطانية إنعاش حي المال وجذب الشركات بعيدا عن البورصات المنافسة. يرى التنفيذيون الولايات المتحدة بيئة تحتضن نموا أعلى، في حين يتحسرون على عدم اهتمام المستثمرين في المملكة المتحدة بسوقهم المحلية، ولا سيما صناديق المعاشات التقاعدية، التي تجنبت الأسهم البريطانية بشكل متزايد على مدى العقدين الماضيين.
قال مايكل توري، مؤسس شركة أوندرا برتنارز الاستشارية: "لا يوجد مستثمرو أسهم محليون هنا –كل شيء آخر مجرد أمر عرضي. لا يتعلق الأمر بقواعد الإدراج أو الحوكمة أو متطلبات الأسهم الحرة. يتطلع المستثمرون العالميون إلى المستثمرين المحليين للحصول على إشارة للتحقق من الاستثمار، وقد تلاشت هذه الإشارة المحلية ببساطة".
تلقت لندن ضربة أخرى بعد أن رفض سوفت بنك الأسبوع الماضي إدراجا في المملكة المتحدة لشركة تصميم الرقائق آرم، مقرها كامبريدج، على الرغم من جهود الضغط التي بذلتها الحكومة، والجهات التنظيمية، والمسؤولون التنفيذيون في البورصة. كما درست شركة النفط العملاقة شل التحول من إدراج لندن إلى نيويورك، في حين كانت مجموعة السباكة فيرجسون وشركة أبكام للتكنولوجيا الحيوية من بين الشركات، التي تخلت عن الإدراج في المملكة المتحدة العام الماضي لمصلحة الولايات المتحدة.
تجاهل ديفيد شويمر، الرئيس التنفيذي لبورصة لندن، عمليات المغادرة الأخيرة، قائلا: "إننا أكبر مركز مالي دولي في العالم دون منازع، ونستمر في جذب كل من رأس المال والشركات التي لديها هذا النوع من المنظور الدولي".
لكن شويمر أشار أيضا إلى تقلص استثمار صناديق المعاشات التقاعدية البريطانية في الأسهم المحلية، الأمر الذي عانته أسواق المال في لندن لأعوام.
"انخفض المبلغ الذي تم تخصيصه لأسهم المملكة المتحدة بشكل كبير على مدار الـ20 عاما الماضية لمصلحة الدخل الثابت، وهذا يثير بعض الأسئلة المهمة حقا".
تراجعت الحيازات من أسهم الشركات المدرجة في بريطانيا في صناديق المعاشات والتأمين البريطانية من نحو تشكيلها نصف محافظها إلى 4 في المائة خلال العقدين الماضيين، وفقا لبيانات من "أوندرا".
كان هذا التحول في توزيع الأصول مدفوعا جزئيا بتغيير محاسبي كبير عام 2000، الذي أجبر الشركات على الاعتراف بعجز صناديق المعاشات التقاعدية في ميزانياتها العمومية.
اتجهت خطط المعاشات التقاعدية ذات الاستحقاقات المحددة، التي تعد بدفع معاشات تقاعدية للموظفين عند مستوى ثابت، أحيانا على أساس أجرهم النهائي، إلى السندات طويلة الأجل لتعويض التقلبات الكبيرة في التزاماتها، في استراتيجيات الاستثمار المدفوعة بالالتزامات، التي تجنبت الأسهم إلى حد كبير. أظهرت بيانات "أوندرا" أن حيازات صناديق المعاشات التقاعدية من الدخل الثابت في المملكة المتحدة ارتفعت من 17 في المائة عام 2000 إلى 72 في المائة عام 2022.
قال ريتشارد ماروود، رئيس الأسهم البريطانية في شركة رويال لندن أسيت مانجمينت، إن إصلاح المعاشات التقاعدية وحوافز الاستثمار في الأسهم المحلية ينبغي أن يكونا التركيز الأساسي للمملكة المتحدة. وأضاف أن سوق لندن عانت "تسرب" عمليات البيع التي ساهمت في فجوة التقييم مع الولايات المتحدة، ويفضل المستثمرون تجنب هذا "الدلو المثقوب" لمصلحة بديل نيويورك "الفائض".
اندفعت استراتيجيات الاستثمار المدفوع بالالتزامات في أعقاب الميزانية "المصغرة" للمملكة المتحدة الخريف الماضي. في مراجعة جرت الشهر الماضي، أقرت لجنة الصناعة والمنظمين في مجلس اللوردات بأن متطلبات المحاسبة هي أحد الأسباب الجذرية لاعتماد الاستراتيجيات وقالت إن التغيير فشل في إدراك "الجانب الصعودي المحتمل من الاستثمار في محفظة واسعة من الأصول بما في ذلك الأسهم" بالنسبة إلى صناديق المعاشات.
من جانبه، قال سيمون أولسن، شريك أسواق المال في شركة ديلويت: "تمثل الأسواق الأمريكية تجمعا أقوى من المستثمرين، ومجموعة مقارنة أقوى وستمنح تقييما أفضل". كما أضاف أن بعض الشركات كانت تستعد للطروحات العامة في المملكة المتحدة بعد فشلها في الإدراج في الولايات المتحدة من خلال عمليات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة أو الإدراج العادي على مدى العامين الماضيين. "بعد أن أدركت هذه الشركات أنها لن تحصل على ما توقعته في الولايات المتحدة، بدأت بالعودة إلى لندن الآن".
يعد المستثمرون البريطانيون أكثر عزوفا عن المخاطرة وأكثر ارتياحا في التعامل مع القطاعات التقليدية، التي تهيمن على مؤشرات لندن، مثل التعدين والطاقة، ما يعوق بالتالي قدرة المملكة المتحدة على الاحتفاظ بشركات جديدة في قطاعات مثل التكنولوجيا ومساعدتها على النمو. كما أنهم يميلون إلى الإفراط في الاعتماد على توزيعات الأرباح من أجل تحقيق العوائد، ما يؤدي إلى نقص الاستثمار.
قال أحد كبار المصرفيين: "لم يتطور المستثمرون المحليون في المملكة المتحدة مع مرور الوقت"، مضيفا أن "لندن كانت يوما ما مركزا لشركات التعدين على مستوى العالم، لكنها فقدت فرصة للتطور عندما سقط قطاع التعدين وصعد قطاع التكنولوجيا".
كما تشعر مجالس إدارة الشركات بالإحباط بشكل متزايد بسبب التدقيق في أجور المسؤولين التنفيذيين وما يرونه على أنه "كشف شكلي" على حوكمة الشركات في لندن. وتعرضت المدفوعات الكبيرة للإداريين في "سي آر إتش" لانتقادات من النشطاء المناهضين للأجور المرتفعة، بينما صوت بعض المستثمرين ضدها.
جذبت البورصات الأمريكية بقوة الشركات البريطانية وسط حالة من عدم الرضا عن السوق المحلية. قالت كاساندرا سيير، رئيسة أسواق المال الدولية في بورصة نيويورك، إن البورصة تواصلت كثيرا، وتحدثت إلى المصرفيين والشركات، وإن "في لندن خاصة، ينصب كثير من التركيز على جلب الشركات إلى الولايات المتحدة".
تعد جاذبية لندن للشركات والمستثمرين جزءا أساسيا من المحاولات الأخيرة من الحكومة لتنشيط الحي المالي في لندن، من خلال "إصلاحات إدنبرة"، التي تهدف إلى تمزيق قواعد الاتحاد الأوروبي لجعلها قادرة على المنافسة ضد المراكز المالية المنافسة. لتعزيز أسواق الأسهم في لندن، ستعمل الحكومة على تجديد نشرات طرح الشركات، وإعادة النظر في قواعد البيع على المكشوف، ومراجعة أبحاث الاستثمار.
تعد هذه المقترحات أهم تحول في الخدمات المالية البريطانية منذ جيل، لكن المصرفيين قالوا إنها قد لا تكون كافية بالنظر إلى عوامل الجذب التي تتمتع بها البورصات الأخرى، بما في ذلك التهديد الذي تمثله سويسرا وأمستردام.
في الوقت نفسه، رحيل "سي آر إتش" هو تذكير واضح بأن لندن متأخرة بالفعل في السباق للاحتفاظ بشركاتها الأكثر قيمة.
"إذا كان لدى أي شخص أي شك في أننا في حالة سيئة، فينبغي أن يدرك ذلك الآن على الأقل"، حسبما قال أحد مستشاري الحكومة.

الأكثر قراءة