البنية الرقمية .. القيمة والفرص
ناقش برنامج البنك الدولي خلال جلسات اجتماعات الربيع 2022، دور الثورة الرقمية في دعم جهود الدول النامية للحد من آثار جائحة كورونا، وأكدت النقاشات أن الخدمات المالية الرقمية، والتعليم عن بعد، والخدمات الحكومية من أهم مجالات الحلول الرقمية، التي تضمن تعزيز نمو أكثر إنصافا واستدامة، ولقد كان هناك شبه اتفاق بشأن مدى تأثير الاستثمار في الحلول الرقمية على القطاعين الخاص والعام والقدرة على توفير الخدمات الحيوية للفئات الأشد فقرا، وإيجاد فرص العمل، وتدعيم منشآت الأعمال الصغيرة والمتوسطة، وتيسير التجارة وتقديم الخدمات، وبناء القدرة على الصمود في وجه الصدمات.
ومن هنا يمكن للتقنيات الرقمية أيضا أن تغير الأسواق والفرص الاقتصادية، فرقمنة عمليات وخدمات القطاع العام، إلى جانب تطوير الصناعات والوظائف الرقمية، تساعد بشكل واضح على دفع عجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
كما بين استطلاع أجراه البنك الدولي حول ماهية التحول الرقمي، الذي يعزز النمو المرن والشامل، أن البنية التحتية الرقمية وتوفير خدمات الإنترنت من أهم القضايا، التي تدعم النمو الشامل والأكثر إنصافا، ثم جاءت قضايا تكنولوجيا التعليم والمهارات الرقمية كثاني أهم القضايا التي تتطلب اهتمام الحكومات حول العالم، وقد اهتم عديد من الأبحاث والدراسات المتخصصة بدور التكنولوجيا في النمو الاقتصادي وتبين أن تكنولوجيا الهاتف المحمول أدت إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير في الفترة من 2017 إلى 2000، وأن زيادة بنسبة 10 في المائة في اعتماد الهاتف المحمول تؤدي إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي 0.5 في المائة إلى 1.2 في المائة، كما أنه من المتوقع اعتماد 60 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي على تقنيات الاتصالات الرقمية في 2022، وأن التوسع في استخدام الخدمات المالية الرقمية يساند التنمية الاقتصادية والحد من الفقر وأن البلدان ذات الأنظمة المالية الأعمق والأكثر تطورا تحقق نموا اقتصاديا أعلى وتخفيضات أسرع في معدلات الفقر وتحقيق المساواة في الدخل، ورغم كل هذه النتائج، فإن تقارير البنك الدولي تشير إلى أن أكثر من نصف سكان الدول النامية ما زالوا غير متصلين بالإنترنت، وأنه في نهاية 2021، كان 71 في المائة من السكان الأصغر سنا في العالم، الذين تراوح أعمارهم بين 15 و24 عاما يستخدمون الإنترنت، مقارنة بـ57 في المائة من جميع الفئات العمرية الأخرى، ولكن الفئات السكانية الضعيفة في كل من البلدان النامية والمتقدمة غير القادرة على الاتصال بالتقنيات الرقمية أو استخدامها تتعرض لخطر التخلف عن الركب، كما تتزايد المخاطر المتعلقة بالخصوصية وأمن الفضاء الإلكتروني في جميع أنحاء العالم.
على مدار الأعوام الخمسة الأخيرة، شهدت الهند توسعا سريعا بدرجة غير عادية في الاتصال الرقمي والقدرة على الوصول إلى الخدمات الرقمية.
وقد خلف هذا تأثيرا إيجابيا في شمولية النمو الاقتصادي، وفي الكفاءة والإنتاجية في قطاع التجزئة، وسلاسل التوريد، والتمويل، وأنشطة ريادة الأعمال.
ويعود ارتباط الهند بالتكنولوجيا الرقمية إلى أواخر ثمانينيات القرن الـ20، فقد استثمرت الحكومة خلال فترة الثمانينيات بكثافة في علوم الكمبيوتر والتعليم.
ومع توسع الوصول إلى الإنترنت في التسعينيات، أصبحت الهند موطنا لعديد من الشركات الكبرى التي نقلت أعمالها إلى الخارج في إدارة تكنولوجيا المعلومات، والعمليات التجارية، وخدمة العملاء.
في هذا السياق، تتحرك الحكومة الهندية في اتجاه استخدام التكنولوجيا التي ستساعدها على تحقيق هدفها في أن تصبح دولة متقدمة بحلول 2047، وأن تعزيز البنية التحتية الرقمية سيسهم في حصول جميع المواطنين على فوائد الثورة الرقمية، وسعت الهند لتأسيس بنية تحتية رقمية حديثة من أجل تحقيق هدفها بحصول كل قطاعات المجتمع على فوائد الثورة الرقمية.
ومن المتوقع في ظل هذه التوجهات والتنافسية العالمية نحو تعزيز البنى الرقمية أن تفرض هذه التكنولوجيا هيمنتها في العقود المقبلة، نظرا لما تسهم به من خفض التكاليف من خلال زيادة سرعة إنجاز المعاملات وتأمينها وضمان شفافيتها، إضافة إلى تطوير منتجات مالية مستدامة مصممة خصيصا لتلبية احتياجات أصحاب الدخول المنخفضة وغير المنتظمة، فانتشار التطبيقات المالية الرقمية في الهواتف المحمولة عزز وصول ملايين البشر لتلك الخدمات في وقت كان التباعد الجغرافي عن المناطق الحيوية ومناطق المال والأعمال يمنع وصولهم للخدمات المالية، التي كانوا بحاجة إليها، وقد وصلت هذه الخدمات المالية إلى عمليات متطورة مثل التأمين والإقراض الرقمي، بل تجاوزت هذه الخدمات نطاق المصارف التقليدية لتشاركها في ذلك شركات الاتصالات.
وفي هذا السياق، شهد كثير من الدول التقدم في هذا القطاع من أجل تحقيق نهضة رقمية تتماشى مع متطلبات الحياة الاقتصادية واليومية في ظل التقدم التقني المستمر ومن بينها السعودية، التي شهدت نقلة نوعية في مجالات الخدمات المالية الرقمية، ومنها إطلاق الترخيص للبنك الرقمي الثالث في المملكة باسم D360.
كما صدرت الموافقة أيضا على استراتيجية للتقنية المالية كركيزة جديدة ضمن برنامج تطوير القطاع المالي لرؤية 2030، حيث تهدف الاستراتيجية لأن تكون السعودية موطنا للتقنية المالية وإحدى الدول الرائدة في قطاع التقنية المالية وتكون الرياض محورا للتقنية.
كمـا تسـعى الاستراتيجية إلـى زيـادة عـدد شـركات التقنيـة المالية العاملة في المملكة إلـى 525 شـركة بحلول 2030 ويوجـد حاليا 147 شركة تقنية مالية نشطة، ويؤكد هذا التحرك أن البيئات الرقمية تغير طبيعة العمل بشكل جذري، وهناك وظائف جديدة تظهر في الاقتصاد الرقمي، وتؤكد الدراسات ذات العلاقة أن دول العالم بحاجة إلى إعطاء الأولوية للتعليم وبناء المهارات الرقمية لقوتها العاملة مع إنشاء شبكات أمان فعالة لدعم تلك التحولات، مع ضرورة تطوير أنظمة رقمية آمنة وموثوقة وتعزيز القدرات في مجالات مثل الأمن السيبراني وحماية البيانات الشخصية.
وخلال الأعوام المقبلة ستتوالى الفصول في قصة الهند الرقمية، لكن الهند تقدم بالفعل دروسا مهمة لفهم وتكييف نماذج التنمية مع عصر تحل فيه الأتمتة "التشغيل الآلي"، والذكاء الاصطناعي محل مصادر تشغيل العمالة التقليدية "خاصة التصنيع".
وتشكل التكنولوجيات الرقمية المستندة إلى الإنترنت عنصرا شديد الأهمية لتحقيق الشمول الاقتصادي والمالي.
وتظهر تجربة الهند أن التوسع السريع في خدمات الإنترنت المحمولة تنشئ الفرص لتشغيل العمالة، وصنع القيمة، والنمو بما يتجاوز عائدات المستثمرين بأشواط مستمرة.
وتظهر تجربة الهند "جنبا إلى جنب مع تجربة دول أخرى" أن الوصول إلى الإنترنت المحمول بسرعة عالية نسبيا وأسعار معقولة يشكل أصلا بالغ الأهمية في إيجاد أنظمة بيئية اقتصادية جديدة يمكن من خلالها نشوء وازدهار الإبداع، ونشاط ريادة الأعمال، وخدمات المستهلك الموسعة الآن، يستفيد مئات الملايين من الهنود بالفعل من هذه العوامل الخارجية الديناميكية الإيجابية. وأخيرا ينبغي لصناع السياسات في الدول النامية الأخرى أن يتنبهوا إلى هذه الحقائق.
إن خدمات الإنترنت المحمولة لا تختلف عن الاستثمار في البنية الأساسية التقليدية، التي تصنع تأثيرات تنموية ديناميكية إيجابية من خلال زيادة العوائد على مجموعة واسعة من الاستثمارات الخاصة.