الإذاعة.. ألق الصوت يتغلب على سطوة التكنولوجيا

الإذاعة.. ألق الصوت يتغلب على سطوة التكنولوجيا
الصوت البشري الأداة المحورية التي تضفي بكلماتها ألقا إنسانيا أصيلا.

احتفى العالم مطلع الأسبوع الجاري 13 شباط (فبراير) باليوم العالمي للإذاعة، الأداة الإعلامية المتميزة والفريدة التي لم تحظ بما يكفي من العناية، إلا في الأعوام الأخيرة، من جانب مؤسسة اليونسكو. تحديدا، في الدورة 187 للمجلس التنفيذي للمنظمة، في أيلول (سبتمبر)/ أيلول عام 2011. قبل اعتماده لاحقا، وبشكل رسمي، بمقتضى القرار رقم 67 /124 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 14 كانون الثاني (يناير) 2013. يعزى اختيار 13 من الشهر موعدا سنويا للاحتفال، إلى تزامنه مع ذكرى إطلاق إذاعة الأمم المتحدة في 1946.
ويعزى الاهتمام العالمي المتأخر بالراديو إلى استطاعة هذه التكنولوجيا زهيدة الثمن البقاء والاستمرارية أولا، ثم قدرتها على المنافسة، في عصر الرقمي، لأكثر من قرن. هكذا، وبعد مضي عقود وعقود على أول بث إذاعي في العالم، لا تزال الإذاعة تحظى بمكانة نوعية على الخارطة، باعتبارها وسيطا إعلاميا مهما، نجح في التكيف المحدود مع الثورة الرقمية، فالطوفان الرقمي، وعكس توقعات اقتراب الأفول، دفع نحو تحسين وتجويد وتطوير عوالم الإذاعة، مع بقاء ذلك في دائرة الحدود التي تضمن الوفاء لأصول وقواعد العمل الإذاعي.
نجح الراديو إذن، واعتمادا على الصوت - في فسح المجال لسحر الخيال- في زمن سطوة الصورة، في نحت مساره، رغم شدة التنافس مع باقي وسائل الإعلام، بما في ذلك شبكات التواصل الاجتماعي. فمزج الضوابط التقليدية للحرفة مع أحدث تقنيات الإعلام الرقمي في الإذاعة، وفر مادة إعلامية بمهنية عالية، في متناول الجمهور من حيث التسعيرة والزمن. واستقطبت الإذاعة شرائح جديدة بتقنية البث الحي على منصات التواصل الاجتماعي، علاوة على تقنية التطبيقات الإذاعية على الهواتف المحمولة، ما يثبت قدرة المذياع على التأقلم مع الأوضاع.
أحدث البث الإذاعي في عشرينيات القرن الماضي ثورة، لا تقل في سياقها آنذاك عن الثورة الرقمية الحالية، فقد غير وجه الحياة اليومية للناس عموما، فالصوت من خلف المذياع قصر المسافات وقرب الخبر، إذ مكن الناس، ولأول مرة، من الاطلاع على الأحداث أثناء حدوثها أو بعد ذلك مباشرة. ونوع من أساليب التسلية والترويح داخل المنازل، وأوجد جسورا للتواصل رغم استكبار الجغرافيا، ومساحات للنقاش وتبادل الآراء... باختصار، فجر ثورة في عالم التواصل كسرت القيود التي كانت تفرضها أشهر وسيلتين للاتصال السريع، هما، البرق والهاتف.
كانت بداية القصة في إيطاليا مع جوليلمو ماركوني، الذي استثمر أعمال من سبقوه أمثال الألماني هنري هيرتز والفرنسي أدوار برانلي والروسي ألكسندر بوبوف، أواخر القرن الـ19، حيث نجح في 1895، في إرسال إشارات لاسلكية عبر الأطلسي، واضعا الحجر الأساس في مشوار البث الإذاعي الذي انطلقت أولى تجاربه، في 1920، في الولايات المتحدة، حيث بدأت رحلة نقل الصوت البشري عبر موجات الأثير التي تحولت، بمرور الوقت، إلى واحدة من أهم وسائل الإعلام الجماهيري، ثم ما لبثت الرحلة أن امتدت مع البث الرقمي، الذي أعطى عمرا آخرا للمذياع، مثبتة بذلك قول الشاعر بشار بن برد، "والأذن تعشق قبل العين أحيانا".
في بيتسبرج، ثاني أكبر مدن ولاية بنسلفانيا، ظهرت إذاعة KDKA أول إذاعة في العالم، أعقبتها، في 1922، هيئة الإذاعة البريطانية BBC، ثم توالت المحطات الإذاعية المملوكة للدولة والخواص. وشكلت حقبة الثلاثينيات حتى الخمسينيات، من القرن الماضي، العصر الذهبي للمحطات الإذاعية، بعدما اكتسب المذياع شهرة واسعة، نتيجة تنوع وغنى البرامج الإذاعية. أثارت ثورة المذياع مخاوف في الصحافة، فقد علق أحدهم قائلا، "رجل يتكلم في موناكو، ويسمع آخر في لندن، إنها النهاية".
عرف العالم العربي الإذاعة مبكرا "مصر/ 1925، المغرب/ 1928، تونس/ 1935، العراق/ 1936، لبنان/ 1941، سورية/ 1941..."، لكونها أداة مركزية في صناعة وتوجيه الرأي العام. لأجل ذلك سارعت الإذاعة البريطانية إلى إنشاء قسم عربي، توجه مواده إلى الجمهور العربي، وشرع في بث مواده مطلع 1938، بعبارة خالدة "هنا لندن، سيداتي ساداتي...". وعيا بأهمية الراديو، الذي خرج منه إعلان بريطانيا الحرب على ألمانيا، أطلق الألمان، خلال الحرب العالمية الثانية، إبان الحكم النازي، إذاعة برلين العربية، "هنا برلين..." لإسماع صوتهم إلى الوطن العربي.
حاول جمال عبد الناصر استنساخ تلك التجربة، بإطلاق إذاعة "صوت العرب" من مصر "هنا القاهرة"، في 1953، لنشر الأيديولوجية القومية في جميع أنحاء الدول العربية، والتحريض ضد عدد من الأنظمة العربية، وتحديدا لبنان والعراق والأردن. ما دفع بالملك الأردن حسين بن طلال إلى إطلاق "إذاعة العرب" من عمان، لمواجهة المد القومي الناصري المقبل من أثير القاهرة. يجد اهتمام الزعماء العرب بالإذاعة تفسيره في كونه الأداة الرئيسة لمخاطبة الجماهير، فعبرها تلقى السوريون والمصريون والعراقيون وغيرهم "البلاغ رقم 1" الذي يعقب العمليات الانقلابية التي كانت هذه الدول مسرحا لها.
دون الإغراق في التاريخ، تفيد الأرقام بأن الإذاعة، وإن كانت تكتفي برسم الأحداث بالصوت فقط، تاركة الفضاء رحبا للمستمع لاستكمال رسم معالم الصورة في مخيلته بكل حرية، نقيض التلفزيون والهاتف النقال واللوح الإلكتروني، لا تزال تحظى بمكانتها في قائمة وسائل الإعلام لدى الجماهير. تتراخى الحرية مع المذياع إلى أبعد مدى، فالاستماع والاستمتاع به لا يحتاج إلى طقوس خاصة، وقد يكون بمعية إنجاز أشغال أخرى "سياقة، طهي، تنظيف..." فهو أشبه بالأنيس والصديق في الطريق أو العمل أو النزهة أو غيرها من الأماكن.
ريادة يعززها الوفاء للأبجديات المهنية، فالمصداقية والثقة في الإذاعة جد مرتفع مقارنة بـباقي الوسائل في زمن التضليل الإعلامي، وسند الإذاعيين في ذلك سمات خاصة بطبيعة العمل الإذاعي، من قبيل سهولة الإنتاج، وقلة التكلفة، ويسر التغطية وسهولتها، لدرجة أن قنوات تلفزيونية، وبدل الاستفادة من ميزة الصورة، اكتفت بإعادة ميزة الراديو بحلقات حوارية مصورة أساسها الكلام.
يكفي دليلا على ما سبق، أن 70 في المائة من سكان العالم يستمعون للإذاعة، عبر المذياع أو الهواتف المحمولة. ويشهد العالم اليوم انتشار أزيد من 44 ألف محطة إذاعية، وتتوزع في العالم مذاييع بمتوسط جهاز واحد لكل ثلاثة أشخاص، ففي الولايات المتحدة وحدها 534 مليون جهاز، ويفوق عدد الأجهزة 66 مليون في المملكة المتحدة، بمعدل 114 لكل 100 نسمة.
أرقام تؤكد أمرين أساسين، أحدهما أن مسألة التجاوز في وسائل الإعلام نسبية إلى أبعد الحدود، مادامت الوسيلة قادرة على التكيف مع التطورات بالسعي إلى مواكبتها دون إفراط في خصوصياتها الذاتية. الآخر مرتبط بركيزة التواصل في المذياع، إنه الصوت البشري، الأداة المحورية التي تضفي بكلماتها ألقا إنسانيا أصيلا على العملية برمتها.

الأكثر قراءة