طفرات صناعية تمهد الطريق لإنسان هجين
اقترب الوقت الذي سيكون فيه الإنسان هو "التقنية" أو "الأداة" التي يخضع فيها للتطوير والابتكار، فالوتيرة التي تسير بها الثورة الصناعية متسارعة بصورة أكبر مما توقعه البشر، فإذا اتخذت الثورة الصناعية الأولى والثانية قرنا من الزمان لكل منهما حتى تكتمل أبعادها كافة، فقد اتخذت الثورة الصناعية الثالثة نصف هذه المدة، وعلى ما يبدو أن الثورة الصناعية الرابعة، التي أوشكت على الانتهاء اتخذت حتى أقل من ربع هذه المدة، لكي يبدأ الحديث عن ثورة صناعية خامسة.
سيكون الإنسان هو موضوع هذه الثورة وأداتها، تماما مثلما كان الفحم والكهرباء والكمبيوتر في الثورات الصناعية السابقة، فالثورات الصناعية الأربع السابقة يمكن النظر إليها على أنها جميعا كانت ثورات تمهيدية للثورة الصناعية الخامسة، الثورة الأخيرة في هذه الحقبة من الحضارة الإنسانية، لكي تعلن بذلك نهاية عصر وبداية فجر جديد لحضارة مختلفة تماما عن سابقتها، تكون فيها الغلبة لإنسان هجين، ذلك الإنسان الممزوج بين البشر والذكاء الاصطناعي.
شهدت بداية اختراع الكمبيوتر في خمسينيات القرن الماضي، بداية الثورة الصناعية الثالثة، القائمة على المعلومات، التي استمرت نحو نصف قرن من الزمان، حتى بدأت تظهر وفرة في المعلومات وتطور في حجم "الترانزستور" أسهم في تسريع عملية دخول الثورة الصناعية الرابعة، المدفوعة بتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والويب والاتصالات اللاسلكية، ودفع ذلك إلى ظهور عدة تقنيات أخرى، مثل "البلوك تشين" والعملات المشفرة والطابعات ثلاثية الأبعاد والحوسبة السحابية وغيرها من التقنيات الذكية.
يستطيع الإنسان أن يسيطر على الآلات الذكية، من خلال ربط هذه التقنيات كافة بالإنسان عبر الشرائح الذكية المزروعة في الأجساد والأدمغة البشرية، كتلك التي يسعى أيلون ماسك إلى زرعها في الأدمغة البشرية، حتى تمنحه صلاحيات التحكم في الأجهزة الذكية الموجودة في المنزل أو العمل أو حتى الأسواق والمواصلات.
الترابط المعرفي بين النظم الذكية وتجانس العمليات التشغيلية بينها سيوفر على الإنسان كثيرا من الوقت، الذي قد يستغرقه في القيام بالأعمال الروتينية، فيصبح كثير من الأعمال الروتينية في حياة الإنسان ميكانيكيا، يتم عبر نظم الذكاء الاصطناعي والآلات الذكية، يشمل ذلك القيام بأعمال النظافة والتسويق والتوصيل ومعرفة الأخبار وكتابة الحالات، ومشاركة الصور والفيديوهات مع الأصدقاء والرد على البريد الإلكتروني ورسائل الدردشة ومتابعة الحالة الصحية والمرضية وغيرها من الأعمال الروتينية.
إذا كانت الثورة الصناعية الرابعة استطاعت أن تعيد هيكلة بعض الوظائف، التي يقوم بها البشر وأن تغير من آلية القيام بهذه الوظائف، فإن الثورة الصناعية الخامسة ستزيحهم تماما من منظومة العمل، لكي تقوم نظم ذكية مستقلة بالأعمال كافة بصورة دقيقة للغاية.
التأثير سيكون سلبيا في كثير من الأفراد الذين سيفقدون وظائفهم، لكن ستظل هناك وفرة في الإنتاج، تتطلب منح هؤلاء الأفراد أمولا لكي يعيدوا استخدامها في شراء هذه المنتجات مرة أخرى، سواء من خلال منحهم إعانات بطالة مجزية أو رواتب جيدة نظير أعمال بسيطة.
استطاعت الثورة الصناعية الرابعة أن تقدم محاولات لإعادة تعريف بعض عناصر الحياة الإنسانية الضرورية، مثل نظم التعليم والعمل والتسوق، وقدمت أشكالا جديدة للعملات النقدية، لكن تأثير ذلك عبر الثورة الصناعية الخامسة سيكون واضحا وراسخا.
بدون شك، ستصبح "الميتافيرس" الفضاء الرئيس للتفاعل الإنساني، وستصبح العملات المشفرة، التي ستستقر بعد تلافي سلبيات النظام القديم، هي وسيلة التعامل النقدي، وتصبح التقنيات الذكية القائمة على شرائح السيليكون وأشباه الموصلات من نظم الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، هي المورد الرئيس للإنسانية بعد الماء والهواء والغذاء، ويصبح الإنسان هو محور الابتكار والتطوير.
وتشير الدراسات إلى أن نحو 65 في المائة، من الأطفال الذين بدأوا تعليمهم الآن في المدرسة الابتدائية سينتهي بهم الأمر في مهن ووظائف غير موجودة بعد، إضافة إلى أن أكثر من نصف الوظائف الحالية ستكون لديها إمكانية التشغيل الآلي بدون عمالة بشرية، في الوقت ذاته.
والهدف من الثورة الصناعية الخامسة المستقبلية هو دمج البشر والتكنولوجيا بعناية، ما يضمن أن كليهما يعملان معا بشكل وثيق، وأن يزود كل منهما الآخر بفوائد لا حصر لها، وقد تم ذكر ذلك في أحد مؤتمرات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس.
وستتيح الثورة الصناعية الخامسة تبني الإبداعات في جميع المجالات بما فيها الطبي، حيث سيكون هناك شيوع لاستخدام الأعضاء والأطراف الصناعية في العمليات الجراحية من خلال الطباعة ثلاثية الأبعاد، وسيكون علم الأدوية مصمما ليناسب الحمض النووي للأفراد.
كما أن الأجهزة الذكية، التي نضغط عليها ونتحدث من خلالها ستختفي وستحل محلها واجهات للتواصل بين العقل البشري والأجهزة أو الروبوتات الذكية، وستصبح المدن الذكية والمنازل الذكية والسيارات ذاتية القيادة والطاقة الخضراء من الأمور المسلم بها.
ففي عام 2017 نشرت صحيفة "الديلي تليجراف" البريطانية دراسة تقول فيها "إنه في عام 2030 فإن نسبة 40 في المائة من العمال والموظفين سيكون رئيسهم روبوتا"، كما تشير الدراسة إلى تقدم اختصاصين مهمين هما الروبوتات والذكاء الاصطناعي بسرعة هائلة، مدفوعين بعلوم البيانات وعلوم هندسة البيانات.
وستشكل القاعدة العلمية للتخصصين الصناعيين أعلاه، ومثال على ذلك السيارات والطائرات العسكرية غير الطائرات المسيرة، التي يستغنى فيها عن السائق والطيار، من جهة أخرى وجود الروبوت، وهذا هو بوابة أو شكل الثورة الصناعية الخامسة المدفوعة بقوة الروبوتات والقادرة على التعايش مع الإنسان.
وعليه، يجب على الباحثين توضيح هذه التقنيات الجديدة وضرورة الولوج فيها من قبل جامعاتهم، وتكييف المناهج الدراسية الجديدة، لتستوعب هذه التطورات العلمية والتكنولوجية.
من ناحية أخرى يتطلب من الإنسان الجديد نقل المشكلات التي يواجهها، لتنفيذ أبحاثه ومشاريع الدراسات العليا في هذه الاختصاصات وغيرها إلى أصحاب القرار في عمادات البحث العلمي وقيادات الجامعات وصناديق تمويل البحث العلمي، ووزارات التعليم العالي والبحث العلمي، لتحقيق التوازن بين الإمكانات المطلوب توفيرها من قبل تلك المؤسسات الأكاديمية والبحثية للباحثين وأعضاء هيئة التدريس، وبين متطلبات الجامعات في إنجاز باحثيها البحوث التطبيقية، التي تسهم في دخولها التصنيفات العالمية، وما تتطلبه من المنافسة الشديدة في تبوء ترتيب متقدم.