نسير نياما على قمة جبل التهديدات الجسيمة «2 من 2»

في روايته العظيمة التي ألفها بين الحربين العالميتين بعنوان "الجبل السحري"، يصور توماس مان المناخ الفكري والثقافي ـ والجنون ـ الذي أفضى إلى الحرب العالمية الأولى. ورغم أن مان بدأ مخطوطته قبل الحرب، فإنه لم يتمها حتى 1924، وكان لهذا التأخير تأثير كبير في المنتج النهائي. تتوالى فصول القصة في إحدى المصحات التي استلهمها من مصحة زارها بالفعل في دافوس، في الموقع ذاته على قمة الجبل "فندق Schatzalp" حيث تقام الآن "مهرجانات" المنتدى الاقتصادي العالمي.
الواقع أن هذا الارتباط التاريخي مناسب تماما. إذ إن عصرنا الحالي من التهديدات الجسيمة يشبه تلك الفترة المأساوية التي دامت 30 عاما بين 1914 و1945 بشكل أقرب كثيرا من شبهه بالأعوام الـ75 من السلام النسبي والتقدم والرخاء في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ينبغي لنا هنا أن نتذكر أن عصر العولمة الأول لم يكن كافيا لمنع الانزلاق إلى الحرب العالمية في 1914. في أعقاب تلك المأساة أتت جائحة "الإنفلونزا الإسبانية"، وانهيار أسواق الأسهم في 1929، والكساد العظيم، وحروب التجارة والعملة، ومعدلات البطالة التي تجاوزت 20 في المائة. كانت هذه الظروف المتأزمة هي التي سمحت بصعود الفاشية في إيطاليا، والنازية في ألمانيا، والنزعة العسكرية في إسبانيا واليابان ـ التي بلغت ذروتها في الحرب العالمية الثانية والهولوكوست "المحرقة".
لكن بقدر ما كانت تلك الأعوام الـ30 بغيضة ومروعة، فإن التهديدات الجسيمة اليوم قد تكون أشد شؤما من بعض النواحي. فلم يكن جيل ما بين الحربين مضطرا إلى التعامل مع أزمة مناخية، أو تهديدات الذكاء الاصطناعي للعمالة، أو المسؤوليات الضمنية المرتبطة بالشيخوخة المجتمعية، "لأن أنظمة الضمان الاجتماعي كانت في ذلك الوقت في أيامها المبكرة، وكان أغلب كبار السـن يموتون قبل أن يتسلموا أول شيكات المعاش". علاوة على ذلك، كانت الحربان العالميتان من الصراعات التقليدية إلى حد كبير، في حين أن الصراعات الجارية الآن بين القوى الكبرى قد تتصاعد بسرعة في اتجاهات غير تقليدية على الإطلاق، بل ربما تتحول إلى حرب نهاية العالم النووية.
وعلى هذا فإننا لا نواجه أسوأ ما في سبعينيات القرن الـ20، "صدمات العرض الكلي السلبية المتكررة" فحسب، بل نواجه أيضا أسوأ ما شهدته الفترة 2007 ـ 2008، "معدلات ديون مرتفعة بدرجة خطيرة"، وأسوأ ما في ثلاثينيات القرن الـ20. إذ يعمل "كساد جيوسياسي" جديد على زيادة احتمالات نشوب حروب باردة وساخنة قد تتداخل بسهولة شديدة وتخرج عن نطاق السيطرة.
على حد علمي، لا أحد من المجتمعين في دافوس اليوم يكتب الرواية العظيمة حول عصر التهديدات الجسيمة. مع ذلك، ينضح عالم اليوم على نحو متزايد بنذر الشر التي يستشعرها المرء عندما يقرأ رواية توماس مان. الواقع أن كثيرين منا منغمسون في الشعور بالرضا عن الذات وعن تلك القمة، ويتجاهلون ما يحدث في العالم الحقيقي أسفل الجبل. نحن نحيا مثل السائرين نياما، ونتجاهل كل إنذار حول ما يحمله لنا المستقبل. يجدر بنا أن نفيق قريبا، قبل أن يتزلزل الجبل.
خاص بـ«الاقتصادية»
بروجيكت سنديكيت، 2023.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي