مزايا ومثالب تثبيت العملة

تناولت مقالة الأسبوع الماضي مسألة تهاوي أسعار العملات. ومن الملاحظ أن انهيار أسعار العملات يحدث بعد فك ارتباط العملة بسعر معين مقابل عملة قوية أهمها الدولار وإلى حد أقل مع اليورو. وثبتت أسعار تبادل العملات بعد الحرب العالمية الثانية مع سعر معين أمام الدولار، في المقابل كان سعر الدولار مثبتا مقابل الذهب.

واتصفت السياسات النقدية في تلك الفترة بدرجة كبيرة من الانضباط حتى تخلت الولايات المتحدة عن تثبيت سعر الدولار مقابل الذهب في بداية سبعينيات القرن الماضي، وتبنت سياسة تعويم الدولار ضد العملات الأخرى والذهب.

بعد ذلك بدأت سياسات تعويم العملة تنتشر حول العالم. وأدت سياسات التعويم غير المنضبط في كثير من الدول إلى زيادة إضطراب أسعار عملاتها، ما فاقم الأوضاع الاقتصادية فيها. وظلت بعض الدول "40 دولة تقريبا" تثبت أسعار عملاتها مقابل عملات رئيسة أو سلة عملات. وقد شهدت الدول النامية التي حافظت على تثبيت أسعار عملاتها فترات طويلة استقراراً اقتصادياً أفضل من الدول المعومة لعملاتها.

يوفر تثبيت العملة فترة طويلة مع عملة قوية كالدولار استقراراً اقتصادياً أفضل ويخفض مخاطر تقلبات أسعار العملة. ويحافظ تثبيت أسعار العملة على القوة الشرائية للأفراد والأعمال، ما يسهل قرارات الاستهلاك والاستثمار وعمليات التخطيط والنمو خصوصا للأعمال الصغيرة والمتوسطة الحساسة عادة لتقلبات العملة.

ويدعم تقليل مخاطر تقلبات العملة الاستثمار المحلي والأجنبي خصوصا، وييسر على الدول الاقتراض بعملاتها الوطنية. ويقود تراجع سعر العملة المحلية إلى خفض عوائد الاستثمار بالعملات العالمية، ما يقلل كثيرا عائد الاستثمار أو قد يجعله سالباً بالعملات الرئيسة. أما بالنسبة إلى المستثمر المحلي فإن ارتفاع مخاطر تراجع العملة المحلية يحفزه على الاستثمار الخارجي أو في العملات الأجنبية، ما يثبط استثمارات المواطنين داخل دولهم. كما يخفض استمرار تراجعات العملة المحلية رغبة المتعاملين في اقتنائها ويدفعهم إلى استبدالها بعملات أكثر استقراراً، ما يزيد الضغوط عليها.

تشير تجارب الدول النامية الفعلية إلى أن الدول التي ثبتت أسعار عملاتها مقابل عملات رئيسة خلال العقود الماضية حافظت بدرجة أكبر على القوة الشرائية لمواطنيها، ما خفف كثيراً من تأثيرات موجات التضخم في سكانها.

ويقود حرص الدول على تثبيت أسعار عملاتها إلى زيادة جهودها لتتبع سياسات مالية ونقدية منضبطة، وتجنب الإفراط في طباعة العملة أو التوسعات المالية والنقدية قدر الإمكان.

كما تسعى الدول التي تثبت عملاتها إلى تحقيق فوائض في موازينها الخارجية وزيادة احتياطياتها من الأصول الأجنبية وذلك لتتمكن من الدفاع عن عملاتها وقت الحاجة.

ويرفع تثبيت سعر العملة واستقرار أسعارها فترة طويلة من الزمن ثقة المتعاملين بها، ما يحفز على اقتنائها والاستثمار بها. كما أن اتباع سياسة تثبيت العملة يعطي إشارة إلى الأسواق باستعداد المصرف المركزي للدفاع عنها. في الجانب المقابل قد لا تكترث الدول المعومة لعملاتها كثيرا لتراجع أسعار عملاتها، ما يعرضها بدرجة أكبر لضغوط سعرية.

وتثبيت العملة يسهل كثيرا السياسات النقدية على المصارف المركزية المصدرة للعملة، حيث تقتصر جهودها على متابعة تغيرات السياسة النقدية لمصرف العملة القائدة المركزي خصوصا فيما يتعلق بسعر الفائدة الأساسي.

وتتمتع المصارف المركزية المصدرة للعملات القوية كالدولار واليورو باستقلالية أكبر، وأسواق مالية عميقة، وقدرات فنية متمكنة، وتتوافر لديها بيانات أشمل وأكثر دقة، ما يسهل كثيراً من صياغة سياسات نقدية مناسبة.

وهذا لا يعني أنها لا تخطئ لكن أخطاءها أقل، وفرص تصحيحها أفضل. ولا يملك كثير من المصارف المركزية في الدول النامية قدرات فنية مماثلة كما أنها في معظم الأحيان أقل استقلالية ولا تتوافر لديها بيانات كافية لصنع سياسات نقدية سليمة.

ربط العملة بعملة معينة يجلب معه بعض المثالب لعل أبرزها فقدان القدرة على صياغة سياسة نقدية مستقلة تماماً. فتثبيت العملة يتطلب تساوي معدلات الفائدة الأساسية بشكل تقريبي مع نظيرتها في العملة القائدة.

وفي حالة تباين الأوضاع الاقتصادية في بلدي العملة القائدة والتابعة فإن السياسات النقدية في البلد المثبت عملته تكون غير مناسبة للأوضاع الاقتصادية. وهذا يحد من تأثير السياسة النقدية في النشاط الاقتصادي، ويجعلها غير مناسبة عند اختلاف الدورة الاقتصادية في الدولة المثبتة عملتها مع الدولة المصدرة للعملة القائدة.

إضافة إلى ذلك فإن ارتفاع أسعار العملة القائدة مقارنة بباقي العملات الرئيسة الأخرى قد يضر بصادرات الدولة المثبتة لعملاتها معها، لكنه يخفض تكاليف الواردات ويدعم جهود التصدي للتضخم.

وربط العملة بسعر عملة أخرى ليس مجاناً بل مكلفاً ويتطلب الدفع عنها في بعض الأوقات مبالغ ضخمة عند تعرضها إلى هجمات المضاربين أو المرور بأزمة اقتصادية.

ولهذا يتحتم على الدول المثبتة عملاتها الاحتفاظ باحتياطيات عملات أجنبية كافية للدفاع عن سعرها وللحد من أضرار تثبيت العملة، وكذلك وضرورة الحرص على تحقيق فوائض في موازينها الخارجية على الأمد الطويل، وهذا ما ساعد دول الخليج العربي على تثبيت أسعار عملاتها خلال العقود الماضية.

وترتفع تكاليف تثبيت العملة عند تعرضها لموجات المضاربة المنظمة، وإذا لم تستطع الدول الدفاع عن سعر عملاتها فإنها تجبر على خفض سعرها أو تعويمها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي