تحديات تهاوي بعض العملات
سهلت العملات عمليات تبادل السلع والخدمات والأصول، وأسهمت بدرجة فعالة في نمو الاقتصاد والتجارة على المستويين المحلي والعالمي. وتتميز بعض العملات بالقوة والقبول على المستوى العالمي، بينما عانى ويعاني عديد منها الضعف وتهاوي أسعار التبادل. تكتسب العملات قيمتها من ثقة المتعاملين بها على مدار فترة طويلة من الزمن. وترتفع ثقة المتعاملين بأي عملة لقيمتها الذاتية أو قيمة الأصول التي تغطيها أو يمكن تبادلها بها أو الثقة بمصدرها. وتحمل العملات التقليدية التي أهمها الذهب والفضة قيما ذاتية في أي مكان وزمان. أما في العصر الحديث فقد اكتسبت عملات الدول "الورقية والمعدنية والبلاستيكية ومعظمها إلكتروني" ثقة الناس بعد القبول الذي حظيت به من قبل الجمهور وتغطيتها في البداية بالذهب والفضة أو عملات مغطاة بالذهب والفضة. وقد أدى نمو الاقتصاد والتجارة العالمية إلى التخلي عن سياسات تغطية العملات بالذهب والفضة وحل بدلا منها الثقة بالاقتصادات والحكومات المصدرة للعملة وقبول الناس لها.
تصدر المصارف المركزية عملات الدول وهي المسؤولة عن إدارتها والدفاع عنها والحفاظ على قيمتها. وتزداد الثقة بالعملة مع ازدياد استقلالية المصارف المركزية ونجاعة سياساتها النقدية. وتغطي المصارف المركزية عادة إصدارات العملة المتداولة باحتياطيات أصول أجنبية أو ذهب. وترتفع الأصول الأجنبية مع تحقيق فوائض في تجارة السلع والخدمات وتدفق الاستثمارات والتحويلات الأجنبية وتتراجع عند المعاناة من عجوزات. وكلما كانت الأساسيات الاقتصادية للدولة قوية وتجارتها الخارجية مرتفعة قويت عملتها. وتقوى الأسس الاقتصادية لأي دولة بقوة مؤسساتها النقدية والمالية وسلامة سياستها وارتفاع تنافسية قطاعاتها الاقتصادية وضخامة مواردها وتقدمها.
عانى عديد من الدول تدهور أسعار صرف عملاتها وتراجعها بشكل سريع بينما حافظت دول قليلة على أسعار صرف مستقرة لعملاتها. ويعود تراجع معدلات الصرف إلى تراجع تنافسية اقتصاد الدولة وازدياد المطلوبات الخارجية عليها مقارنة بأصولها الأجنبية. وتعد السياسات النقدية والمالية من أبرز العوامل المؤثرة في أسعار العملة، حيث تؤدي عجوزات المالية العامة غير المنضبطة على الأمد الطويل إلى تدهور الموازين الخارجية. وتمارس - أو تأمر - بعض الدول ضغوطا على المصارف المركزية لتمويل عجوزاتها المالية بشكل مباشر، ما يقود إلى طباعة العملة بشكل مكثف ويرفع معدلات التضخم ويهوي بسعر صرف العملة. وقد عصفت بألمانيا قبل نحو قرن معدلات تضخم فلكية بسبب طباعة العملة، كما عانت وتعاني عديد من الدول النامية كفنزويلا معدلات تضخم مفرطة وانهيار سعر العملة.
شهدت وما زالت عديد من دول منطقتنا كالعراق والسودان وسورية ولبنان سقوطا حرا في أسعار صرف عملاتها، بينما عانت دول أخرى كمصر وتركيا تراجعا حادا. وتتسبب الصدمات السياسية والأمنية والاقتصادية في آثار كارثية على الاقتصاد والقطاعات المالية والنقدية، ما يهوي بالعملات إلى مستويات متدنية كما حدث في العراق والسودان وسورية ولبنان. من جانب آخر تعاني بعض الدول تراجعا تاريخيا شبه مستمر في عملاتها، ما يجعل اقتصاداتها معتادة على تراجع العملة، فتسود التوقعات بانخفاض سعر العملة وهو ما حدث في دول كتركيا ومصر. وتقود سيادة التوقعات بتراجع العملة إلى دفع الناس للتخلص منها واستبدالها بعملات أكثر ثباتا، ما يزيد الضغوط على أسعارها. لهذا فإن أهم أصل في أي عملة هو ثقة الجمهور بها. وتميل بعض الدول إلى المبالغة في الاقتراض لتمويل أنشطتها ويزداد الطين بلة عندما تبالغ الحكومات وقطاعاتها المالية الخاصة بالاقتراض بالعملات الأجنبية عند تراجع معدلات الفائدة العالمية. ومع مرور الوقت تتسبب تغيرات السياسات النقدية العالمية في رفع معدلات الفائدة، ما يفاقم أعباء الديون الخارجية حتى تعجز بعض الدول عن السداد. وكلما زادت الأعباء الخارجية تراجعت الثقة بالعملة المحلية وتراجعت أسعار صرفها.
تنخفض أسعار العملات بالدرجة الأولى لأسباب محلية، من أبرزها معدلات التضخم المرتفعة والإفراط في التوسعات المالية والنقدية، وسوء إدارة سياستها الاقتصادية، وضعف القدرة التنافسية للقطاعات الاقتصادية، والأزمات السياسية والأمنية. من جانب آخر تسهم العوامل الخارجية أيضا في تفاقم تراجع أسعار العملات، فقد تتعرض الدول لهجمات مضاربي العملات "أفرادا أو دولا أو مؤسسات" كما حدث في الأزمة الآسيوية حتى لبعض عملات الدول الكبيرة كالجنيه الاسترليني. إضافة إلى ذلك تؤدي الأزمات المالية والنقدية والسياسية الدولية إلى آثار وخيمة على الدول كما حدث في أزمة كورونا، والأزمة المالية العالمية وتضخم أسعار الطاقة والغذاء، حيث تراجعت احتياطيات العملة الأجنبية للدول المعتمدة على السياحة والاستثمارات الأجنبية كتركيا ومصر، ما خفض قدرات دفاعها عن عملاتها. كما قاد التباطؤ الاقتصادي العالمي بسبب الأزمة المالية العالمية وكورونا إلى ضعف الطلب على الصادرات، ما ضغط على الاحتياطيات الأجنبية لكثير من الدول وأضعف عملاتها. أما ارتفاع معدلات الفائدة الأخير فقد فاقم أوضاع كثير من الدول النامية المعتمدة على القروض الأجنبية.
أزمة العملة في أي بلد مؤشر على الأوضاع الاقتصادية المتردية وقد تقود إلى آثار كارثية على الدول وشعوبها. فانهيار العملات يتسبب في تصاعد معدلات التضخم وتآكل القوة الشرائية لمعظم الشرائح السكانية وارتفاع معدلات العوز والفقر ومعاناة متوسطي الدخل، كما يحد من قدرة الأعمال على شراء مدخلات الإنتاج ويخفض الناتج. وإذا اشتدت أزمة العملة فقد تجبر الدول على التخلف عن سداد ديونها الخارجية وإشهار إفلاسها وانهيار أنظمتها المصرفية والهبوط بمستويات المعيشة إلى مستويات متدنية كما حصل في لبنان.