التضخم والفائدة والأسواق وتعقيدات المشهد الاقتصادي
لا شك أن أحد أهم التحديات للاقتصاد العالمي اليوم هو التضخم والارتفاع الكبير في الأسعار والإجراءات التي بدأت تتخذها البنوك المركزية لمواجهة التضخم من خلال رفع أسعار الفائدة التي كانت فاعلة نسبيا، إلا أن النتائج ما زالت بطيئة وغير مؤكدة، كما يضاف إلى ذلك وجود عوامل خارجة عن مسألة الارتفاع في حجم السيولة مثل الحرب في أوكرانيا والإغلاقات في الصين ومشكلات سلاسل الإمدادات، ويمكن أن يضاف إلى ذلك المتغيرات داخل الاقتصادات الكبرى في العالم، حيث إن معدل البطالة وصل إلى النسبة الأقل في بعض الدول الكبرى اقتصاديا مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إضافة إلى الارتفاع في الرواتب في بعض دول العالم، وهو نتيجة طبيعية بسبب ارتفاع الطلب على القوى العاملة وزيادة الرواتب التي بدورها ستزيد من فرص زيادة نسبة التضخم.
وإجراءات رفع أسعار الفائدة لا شك أن لها أثرا يمكن أن نلاحظه من خلال الانخفاض الذي نشهده نسبيا في نسب التضخم، إلا أن الأسباب الرئيسة التي تعزز من نسب التضخم قائمة وقد يظهر أثر أسعار الفائدة بشكل أكبر على المدى المتوسط خلال العام الحالي بحسب نظر بعض الخبراء، إلا أن النتائج أحيانا تظهر نتائج معاكسة نسبيا، حيث إن النمو في الولايات المتحدة ما زال موجودا ولو بنسب منخفضة نسبيا، ما يعني أن شبح الركود أصبح أبعد مما هو متوقع في نظر بعض الاقتصاديين، كما نجد أن الأسواق المالية وأسعار السلع الأساسية والمعادن والطاقة لم تنهر بعد أو تتراجع بصورة كبيرة، أو على الأقل بالصورة التي يتحدث عنها مجموعة من الاقتصاديين والشركات الاستشارية الكبرى في العالم، كما أن الانخفاض في نسبة البطالة مؤشر على صعوبات تواجه التضخم في ظل استمرار إنفاق المستهلكين وبشكل أوسع، ما يضغط على الأسعار، وهذا يعزز من فرص استمرار تشدد الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة، وقد يمتد ذلك إلى فترة قبل أن تستقر أسعار الفائدة أو تنخفض.
التقرير الخاص بالتضخم جاء متوافقا مع توقعات المحللين التي جاءت بـ6.5 في المائة، وهذا كان له دور في استقرار وارتفاع يسير للأسعار في الأسواق في الولايات المتحدة بعد إعلان نتائج التضخم لكانون الأول (ديسمبر) 2022، وهو ختام لتحولات التضخم التي تجاوزت 9 في المائة خلال 2022.
الغريب في المشهد أن الانخفاض في التضخم صاحبه نشاط أكبر في الأسواق وارتفاع في أسعار مجموعة من السلع منها المعادن النفيسة كالذهب والفضة وأسعار مجموعة من السلع، وهنا يأتي تعقيد المشهد الاقتصادي، حيث إن ارتفاع السلع سينعكس على أسعار السلع وبالتالي نعود مرة أخرى إلى التضخم مرة أخرى، كما أن الأسواق لا تساير بالضرورة توقعات المحللين فالذين يتوقعون انهيارات للأسواق لم تتحقق توقعاتهم بعد، بل إن الاستقرار كان الأقرب خلال الفترة الماضية.
صعوبة اتخاذ القرار مع الزخم الكبير للتقارير التي تتحدث عن انخفاضات للأسواق يجعل البعض يتردد في قراره الاستثماري، بل تجاوز ذلك إلى قرارات الأفراد الخاصة سواء بشراء سيارة أو أثاث أو حتى شراء منزله الخاص باعتبار أن القطاع العقاري والسكني منه بصورة خاصة، سيتأثر بشدة بعد تضخم أسعاره خلال الفترة الماضية، وقد بدأت مؤشرات انخفاض مجموعة من السلع، إلا أن البعض يتوقع حدوث مزيد منها فهو يؤخر قرار الشراء لعله يحصل على أسعار أقل من الأسعار الحالية، ولا شك أن عموم المراقبين يتوقعون ذلك خلال الفترة المقبلة وهذا ما جعل المؤشرات الخاصة بحجم الصفقات العقارية أقل رغم توافر المعروض بشكل واضح في السوق.
بل نجد أن بعض المستثمرين الأفراد متردد جدا في قراره الاستثماري بين الاستثمار في الأصول مثل الأسهم والقطاع العقاري في ظل وجود توقعات بانهيارات لهذه الأصول أو الاستثمار في أدوات الدين مثل الصكوك الإسلامية ذات العائد الثابت، التي يرى البعض أنها أيضا قد تنخفض بسبب احتمالات رفع أسعار الفائدة، أو الاحتفاظ بالكاش رغم استمرار التضخم الذي يجعل من الكاش الذي أصبحت تتآكل قدرته الشرائية في ظل استمرار التضخم.
الخلاصة، إن العلاقة بين التضخم ورفع أسعار الفائدة والأسواق والركود أصبحت معقدة فما زالت الأسواق متماسكة، ورغم رفع أسعار الفائدة إلا أن أسعار بعض السلع ترتفع مثل الذهب، واعتاد المستثمرون والمضاربون على عدم مجاراة توقعات المحللين لتحقيق مكاسب استثنائية، ومن هنا يأتي تعقيد المشهد وصعوبة القرار.