فرنسا تنجو من عاصفة التضخم لكن ضغوط الأسعار تزداد
تجنبت فرنسا حتى الآن ارتفاع أسعار الخبز الذي اجتاح أوروبا - مؤشر ليس فقط على دور الخبز الفرنسي في ثقافة البلد، بل أيضا على نجاح باريس النسبي في كبح جماح التضخم.
قال دومينيك أنتراكت، الذي يرأس الاتحاد الفرنسي الرئيس لصانعي المعجنات والمخابز البالغ عددهم 33 ألفا، "ارتفعت أسعارنا بأبطأ معدل في أوروبا".
من متجره في الدائرة الـ16 في باريس، أشاد أنتراكت "بالمكانة شبه المقدسة" للخبز الفرنسي، التي جعلت كثيرا من المنتجين يترددون في تمرير الزيادات رغم ارتفاع تكلفة الدقيق. لكنه وإلى جانب الخبازين الذين يتناولون الخبز في البلد قد تلقوا المساعدة أيضا من خلال الإجراءات الحكومية التي حمت الاقتصاد من التقلبات الكبيرة في تكاليف الطاقة.
بينما شهد الأوروبيون، في المتوسط، ارتفاع سعر رغيف الخبز بنحو الخمس، أظهرت بيانات من يوروستات، مكتب الإحصاء التابع للمفوضية الأوروبية، أن أسعار الخبز السنوية في فرنسا ارتفعت 8.2 في المائة.
يؤكد اقتصاديون أن إعانات الطاقة للشركات والأسر هي التي كانت وراء النجاح النسبي الذي حققته فرنسا في إبقاء الزيادات المتسارعة في الأسعار التي أثرت في المتسوقين في جميع أنحاء المنطقة تحت السيطرة.
لم تتصرف دول أوروبية الأخرى لكبح الأسعار إلا بعد أن أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى ارتفاع في تكاليف الطاقة، وكذلك في أسعار القمح.
لكن لودوفيك سوبران، كبير الاقتصاديين في شركة أليانز للتأمين، قال إن إعانات الطاقة الفرنسية - بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون قبل إعادة انتخابه في نيسان (أبريل) الماضي - تعني أن باريس "تجهزت في وقت مبكر للغاية. نجح الأمر إلى حد كبير - لقد كان قرارا جيدا".
على عكس الاقتصادات الأوروبية الرئيسة الأخرى - بما في ذلك ألمانيا، وإسبانيا وهولندا - من غير المرجح أن يصل تضخم أسعار المستهلكين في فرنسا إلى منطقة الأرقام الزوجية، حيث بلغ ذروته عند 7.1 في المائة في تشرين الثاني (نوفمبر) - نسبة أقل بكثير من المتوسط الإقليمي البالغ 11.1 في المائة.
قالت آن صوفي السيف، كبيرة الاقتصاديين في شركة الاستشارات بي دي أوه فرانس، "ما يميز فرنسا هو أنها تدخلت في وقت أبكر بكثير من الدول الأخرى".
مستوى التضخم المنخفض يعني انخفاض حدة أزمة تكلفة المعيشة عن تلك التي تواجهها أماكن أخرى.
من المتوقع الآن أن تتجنب فرنسا، على عكس معظم دول الاتحاد الأوروبي، ركودا في 2023، وفقا لوكالة الإحصاءات في البلد Insee - التي تتوقع مع ذلك تقلص الإنتاج الفرنسي في الربع الرابع وتتوقع أن يتباطأ النمو بشكل حاد هذا العام.
قال محللون إن الإجراءات استوحيت على ما يبدو من الحسابات السياسية.
في الفترة التي سبقت انتخابات العام الماضي، كان ماكرون حريصا على تجنب تكرار احتجاجات "السترات الصفراء" التي أعقبت محاولته فرض ضريبة على الوقود في 2018.
لقد اتخذ قرارا بتجميد فواتير الغاز للمستهلكين في نوفمبر 2021، وتقديم دعم للطاقة بقيمة 100 يورو لما يقل قليلا عن ستة ملايين أسرة في كانون الأول (ديسمبر) من ذلك العام. منذ أوائل 2022، تم وضع سقف للزيادات في فواتير الطاقة بـ4 في المائة للمستهلكين والشركات الصغرى. إن الإجراءات، التي تضمنت تخفيضات في محطات الوقود وتخفيض ضرائب الكهرباء، كلفت الحكومة ما يزيد قليلا على 34 مليار يورو العام الماضي.
قال سوبران، "لم يكن هناك سبب في ذلك الوقت لحماية المستهلكين من أسعار الطاقة سوى منع الناس من النزول إلى الشوارع قبل الانتخابات مباشرة".
يقول الاقتصاديون إن هناك عوامل أخرى ساعدت على كبح جماح التضخم في 2022. قال إريك دور، مدير الدراسات الاقتصادية في معهد الاقتصاد العلمي والإدارة، إن الزيادات في الأجور الفرنسية كانت أقل في المتوسط من أي مكان آخر في الاتحاد الأوروبي. أضاف أن فرنسا تتمتع أيضا بقطاع متاجر بقالة كبرى شديد المنافسة، حيث يستخدم كبار تجار التجزئة قوتهم للحصول على أسعار منخفضة من الموردين، على الرغم من أن بعض يحذر الآن من ارتفاع الأسعار.
تخطط باريس لإنفاق نحو 46 مليار يورو على مزيد من حماية الأسر من فواتير الطاقة في 2023، بما في ذلك الحد من الزيادات في فواتير الغاز والطاقة إلى 15 في المائة. كما خصصت الحكومة عشرة مليارات يورو كمساعدات للشركات لخفض فواتيرها في الطاقة.
لكن بعض الشركات تظل قلقة وتحذر من أن هذه المعونة قد لا تكون كافية.
قالت مجموعة الأطعمة كوفيجيو إنها ستوقف الإنتاج مؤقتا في أربعة من مصانعها الفرنسية الثمانية في يناير، نظرا إلى أن عقد الكهرباء الذي تم تجديده يعني أن فاتورتها ستقفز عشرة أضعاف. كما أن بعض الشركات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل شركات صنع الصلب والزجاج قد خفضت الإنتاج هي الأخرى.
يقول الاقتصاديون إن سخاء الإعانات يمكن أن يؤدي أيضا إلى حشد مشكلات أخرى بالنظر إلى مستوى ديون البلد. بعد تقديم 240 مليار يورو من المساعدات الحكومية لمساعدة الشركات الفرنسية في 2020 و2021 خلال جائحة فيروس كورونا، فإن الدين العام أعلى بكثير من متوسط منطقة اليورو البالغ 94.2 في المائة، عند أكثر من 110 في المائة من الناتج.
قالت وكالة إس أند بي، التي عدلت أخيرا النظرة المستقبلية لفرنسا من مستقرة إلى سلبية، إن البلد قد يكون لديه مجال أقل للمناورة إذا حدثت صدمات اقتصادية أخرى.
من جانبه، قال سيلفان بروير، كبير الاقتصاديين لأوروبا في وكالة إس أند بي، "أسعار الفائدة المرتفعة في 2023 ستشكل تحديا للاستراتيجية التي اتخذتها الدولة الفرنسية".
بينما ينخفض التضخم في أماكن أخرى من منطقة اليورو، من المتوقع أن تظهر الأرقام ارتفاعا طفيفا في نمو الأسعار في فرنسا. ومن المتوقع أن يبلغ التضخم الفرنسي ذروته في الربع الأول من 2023، وفقا للبنك المركزي الفرنسي.
تواجه كثير من الشركات، التي لا تستفيد من سقوف أسعار الطاقة لكنها محمية بالشروط الثابتة لاتفاقيات الطاقة الخاصة بها، تجديدا للعقود.
في مخبز أنتراكت، من المتوقع أن تزيد تكاليف الطاقة أربعة أضعاف في 2023، رغم أن الدعم الحكومي ينبغي أن يغطي نحو نصف الزيادة. قال أنتراكت إنه إذا رفع الخبازون أسعار الخبز بمقدار عشرة أو 20 سنتا للرغيف، فستتدبر معظم المخابز أمرها. "البعض يشعر بالقلق، قائلين إنه سيتعين عليهم الإغلاق (...) لكنني أخبر صانعي الخبز أنهم بحاجة إلى البدء في تمرير بعض الزيادات على المستهلكين. لن يكون عاما استثنائيا".