أزمة الطاقة إلى أين؟ «2»
عودا على بدء، ذكرت في المقال السابق أن الدراسات المستقبلية خليط من الماضي وخبراته المتراكمة والمعلومات المتاحة والمستخلصة منه، الموضوع أو الظاهرة محل الدراسة، والحاضر بمعطياته، وأصبح استشراف المستقبل من أهم أدوات التقدم والتطور في جميع النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والصحية وغيرها.
ذكرت أيضا أن المتابع للدراسات الاستشرافية في قطاع الطاقة يلاحظ أن كثيرا من بيوت الخبرة والجهات المختصة العالمية خلال الفترة الأخيرة، لم توفق في استشراف مستقبل الطاقة على المدى القصير، بسبب نوعية وجودة مدخلات هذه الدراسات الاستشرافية، أو آلية تحليلها والبناء عليها، أو لأسباب بعيدة كل البعد عما سبق، ومنها تسييس القضية لخدمة أجندات خاصة لا تصب بأي حال من الأحوال في مصلحة أسواق الطاقة واستقرارها، ولم تعتمد بالتأكيد على أساسيات السوق.
سلطت الضوء على واقع السوق الذي لا يمكن تزيينه، لكون العالم يقف على حافة أزمة حقيقة للطاقة بدأت ملامحها تتجلى في أوروبا، وتعاملها مع ملف الطاقة الذي أرى أنه تعامل مجانب تماما للموضوعية ومليء بالتناقضات.
الأزمة الروسية - الأوكرانية في الواقع فندت كثيرا من الادعاءات الباطلة، ومن المفترض لكل ذي لب أنها صححت كثيرا من المفاهيم، بل علقت الجرس حول المفهوم الحقيقي لأمن الطاقة العالمي وسلامة إمداداتها.
الواقع أثبت أن مزاعم بعض دول أوروبا ومن يلف لفها أن نجم الوقود الأحفوري أفل، ليست إلا أمنيات، والواقع أثبت أن جميع مصادر الطاقة ضرورة ملحة في ظل النمو العالمي المطرد الذي يحتاج -بطبيعة الحال- إلى نمو مواز له في إمدادات الطاقة، فلا نمو ولا تطور صناعي، ولا أمن غذائي، ولا رفاهية اجتماعية بلا إمدادات مستدامة وآمنة للطاقة! الأحداث المتتالية التي مرت بها أسواق الطاقة العالمية، والتحديات التي واجهتها، عززت حقيقة أن الشعارات الرنانة لن تمد العالم بالطاقة، وأن الأجدى والأكثر موضوعية وحكمة أن يكرس العالم جهوده لرفع كفاءة استخراج واستهلاك جميع مصادر الطاقة دون استثناء، لا بمحاربة بعضها وتهميش بعضها وتقويض الصناعة والاستثمار في الوقود الأحفوري وعلى رأسه النفط.
العالم يترقب بقلق وحذر شديدين مستجدات الأزمة الروسية - الأوكرانية بين متفائلين بانفراجة قريبة ومتشائمين يرون أن الأزمة ستطول وستطول جدا، وقطاع الطاقة وصناع القرار فيه من منتجين ومستهلكين يراقبون كذلك لكون أحد أطراف الأزمة، وأعني هنا روسيا، من أكبر منتجي النفط والغاز عالميا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل دورها وأهميتها في استقرار أسواق الطاقة.
يرى كثير من المتابعين والمهتمين أن الأمور قد تتجه نحو الانفراج فيما يخص الأزمة الأوكرانية - الروسية التي تعني بصورة أدق الأزمة الأوروبية - الروسية، يرون أنها تتجه نحو الانفراج ونحن نقف على عتبات الشتاء، وأن الشتاء هو البطاقة الروسية الرابحة للمساومة والتفاوض.
لكن في رأيي أنه حتى اللحظة ما زالت الأمور متوترة وليست هناك أي مبادرة حسن نية حقيقية من أحد الأطراف، تعكس أن هناك رغبة جادة نحو التهدئة أو الهدنة على أقل تقدير، فما أشاهده أن هناك معركة كسر عظم واختبار حقيقي لكلا الطرفين عند مدى قدرة طرف لتحمل الواقع دون رضوخ لمطالبات الطرف الآخر. أرى وأتمنى ألا يحدث ذلك.
ليست هناك بوادر لانفراجة قريبة، لكن المواقف تتبدل والمبادئ تتغير بين عشية وضحاها، وهذا الشتاء لن يكون عابرا على أوروبا والعالم أجمع.