السرية في الرواتب .. ديناميكية باتت تتحول لمصلحة العمال

السرية في الرواتب .. ديناميكية باتت تتحول لمصلحة العمال

عادة ما تفرض الآداب أن الحديث عن المال أمر غير لبق. لكن المال يدعمنا في الحياة العملية بعد الجائحة. حيث يشمل ذلك تكاليف المعيشة ومشكلات التضخم إلى حملات العدالة في الأجور، والحرب من أجل المواهب، واختيار الموظفين للعمل عن بعد في مناطق ميسورة التكلفة - لذا أصبح من المستحيل عدم التحدث عن المال عندما نتحدث عن العمل.
اعترض العمال الأصغر سنا على وجه الخصوص على المحرمات القديمة التي منعت الأجيال الأكبر منهم سنا من مناقشة الأجور بشكل علني. بينما قد يشعر بعض أصحاب العمل بالقلق من أن الشفافية الأكبر في الأجور ستميل بتوازن القوى بعيدا عن كفة الرؤساء، يعتقد بعض الخبراء أنها ستجعل أماكن العمل أفضل للجميع على المدى الطويل.
إن التحركات نحو الشفافية آخذة في الازدياد. في مدينة نيويورك، وجب عرض جميع قوائم الوظائف المنشورة ابتداء منذ 1 تشرين الثاني (نوفمبر) نطاقا للرواتب المخصصة لها. وجدت دراسة حديثة أجرتها شركة ويليس تاور واتسون أن عديدا من المنظمات تكشف عن رواتبها حتى لو كان ذلك غير مطلوب بموجب القانون. ويشير دانيال جو، كبير الاقتصاديين في موقع جلاسدور على الإنترنت، إلى "انتشار" هذه الظاهرة، حيث كانت هناك "زيادة متواضعة" في أعداد أرباب العمل الذين يفصحون عن الرواتب في المناطق المحيطة بنيويورك.
كما أن بعض الشركات - منها أمازون وأميريكان إكسبريس وماسيز - تلتزم بتشريعات نيويورك، لكن تم انتقادها بسبب نشرها نطاقات رواتب واسعة جدا. لكن جو يضيف أن "نطاقات الرواتب المعلنة، إلى حد كبير، ضيقة نسبيا".
نيويورك هي واحدة من عدة ولايات أمريكية تطبق هذه القوانين. حيث دخل قانون شفافية الأجور في كولورادو حيز التنفيذ بداية العام الماضي، إذ يلزم إعلانات الوظائف أن تشمل نطاقا للراتب. بينما وقع حاكم ولاية كاليفورنيا جافين نيوسوم على أن يصبح مشروع قانون شفافية الأجور ساري المفعول في الولاية في كانون الثاني (يناير) 2023، كما قامت ولاية واشنطن بمراجعة قانون المساواة في الأجور الخاص بها وأصبح يستلزم الكشف عن معلومات نطاق الراتب، أيضا اعتبارا من كانون الثاني (يناير) 2023. هذه القوانين ستغطي مجتمعة خمس العمال الأمريكيين. غير أن التشريع لا ينطبق على أشكال أخرى من الأجور أو المزايا، مثل المكافآت النقدية أو إمكانية العمل عن بعد.
جعلت الجائحة موجة من الموظفين يشعرون بالانتقاص من قيمتهم وتدني أجورهم، ما أدى إلى "إزالة الستار" عن الأجور، كما يقول توبي أولوول، الذي يدير "3 سكيلز"، وهي خدمة تقدم التطوير المهني لمساعدة الناس في الحصول على وظائف برواتب أعلى. ويقول إيان وايت، الرئيس التنفيذي لشركة تشارت هوب، وهي أداة لتحليل الأشخاص، إنه أيضا رأى أن الجائحة ساعدت على تسريع النقاشات حول الأجور.
أدت تكلفة المعيشة الحالية إضافة إلى أزمة التضخم لتفاقم الوضع الراهن. أفاد مكتب الإحصاءات الوطنية في المملكة المتحدة بأن النمو في أجور العمل المنتظم (باستثناء المكافآت) قد انخفض 2.9 في المائة من قيمته الحقيقية - بعد تعديله وفقا للتضخم - بين شهري حزيران (يونيو) وآب (أغسطس) 2022.
إذا لم يتمكن العمال من الحصول على زيادات من أصحاب العمل الحاليين، فمن المحتمل أن يبحثوا عن عمل في مكان آخر. ووفقا لتقرير صادر عن شركة ثيتا جلوبال أدفايزرز للاستشارات المحاسبية، أن 29 في المائة من العمال يقولون إنهم يبحثون بنشاط عن وظيفة أخرى بأجر أعلى. فيما وجدت إحدى الدراسات الاستقصائية أن 68 في المائة من العمال قد ينتقلون إلى صاحب عمل إذا كان يتمتع بشفافية أفضل في الرواتب، حتى لو ظلت رواتبهم كما هي.
يقول سبنسر كنيبي، الرئيس التنفيذي لوكالة إم بي كيه سيرتش للتوظيف، إن تعميم الكشف عن نطاق الرواتب بموجب القانون في نيويورك انعكست عنه بعض الآثار السلبية على أصحاب العمل، كمطالبة الموظفين الحاليين بزيادات في الأجور أو حتى التهديد بترك العمل عندما يرون معلومات الرواتب في إعلانات الوظائف التي ينشرها صاحب أعمالهم.
في حين أن حركة شفافية الأجور قد تسبب ارتفاعا قصير الأجل في معدل تبدل الموظفين، يعتقد جو أنها ستؤدي في النهاية إلى "توافق أفضل على المدى الطويل"، وأنها ستجعل عملية التوظيف أكثر كفاءة. لن يضطر كل من المرشح للوظيفة ومسؤول التوظيف بعد الآن إلى الخوض في عملية المقابلة بالكامل فقط ليدركوا بعدها أن توقعاتهم للراتب لم تكن متوافقة.
كان من المقرر أن يدخل قانون نيويورك حيز التنفيذ الربيع الماضي، لكن تم تأجيله من أجل السماح للشركات بإجراء مراجعات داخلية للأجور استعدادا للمتطلبات الجديدة. يقول وايت إن الطلب على الأدوات المستخدمة لتحليل الأجور "آخذ في الارتفاع". فما كان يعده عملاء تشارت هوب في السابق إضافة اختيارية، بات التعامل معها الآن على أنها متطلب ضروري. كما أدى الانكماش الاقتصادي إلى تغيير تفضيلات العاملين فيما يتعلق بنوع الراتب الذي يتلقونه. يقول أولوول: "يريد الناس مزيدا من المال فقط لا غير" حيث يركز عملاؤه الذين يبحثون عن عمل اهتمامهم على الرواتب الأساسية الأعلى بدلا من خيارات الأسهم، التي تعد أكثر عرضة لانكماش السوق.
كان لدوافع العمال لكسب مزيد من المال تأثير غير مباشر من حيث زيادة الشفافية في أجور العمل. تركت هانا ويليامز وظيفتها كمحللة بيانات في أيار (مايو) كي تدير سلسلة فيديوهات تحت مسمى سالاري ترانسبيرانت ستريت بدوام كامل، وتجري من خلالها مقابلات مع أشخاص في الشارع حول عملهم والأموال التي يكسبونها لقاء ذلك. حيث أطلقت المشروع في نيسان (أبريل)، ولديها الآن ما يقارب مليون متابع، تقول إنها شهدت زخما مذهلا في التحركات باتجاه شفافية الأجور على مدار الأشهر الستة الماضية. قالت: "كان يكفي أن أغير المشهد حول ما إذا كان الحديث عن الرواتب يعد من المحرمات. ابتدأت النقاش، وذلك يساعد الناس على معرفة قيمتهم وكم يستحقون".
تطور حساب سالاري ترانسبيرانت ستريت على منصة تيك توك بعد أن نشرت ويليامز مقطع فيديو في شباط (فبراير) عن بيانات الرواتب التي تقاضتها عبر الزمن. وكان ما ألهمها هو أمر بسيط: "كنت أتقاضى راتبا ضئيلا!". فعندما دخلت سوق العمل بعد الكلية، لم تكن تعلم أن التفاوض مع شركات التوظيف كان خيارا يعمل به. قالت: "لم يخبرني أحد بذلك من قبل". عندما طلبت زيادة في أجرها، شعرت أن أصحاب العمل "جعلوها تفشل في ذلك".
أضاف أولوول أنك عندما تعرف كم يتقاضى زملاؤك في العمل وأمثالك في المجال "يصبح حينها من السهل عليك الدفاع عن نفسك". يقول وايت إنه شهد زيادة في مشاركة الأشخاص لجداول بيانات الرواتب، غالبا دون ذكر أسمائهم، في صناعات تراوح بين التكنولوجيا إلى الإعلام والتمويل. كما أن هناك عددا متزايدا من المنصات بما فيها جلاس دور وبلايند و ليفيلز دوت إف واي آي وريب فيو - حتى في بعض زوايا منصة تيك توك - حيث يتم تشجيع الأشخاص فيها على الكشف عن رواتبهم.
وجد أيضا أن الشفافية في الأجور تسد الفجوات في أجور العمل التي طالما ابتليت بها النساء والأشخاص من ذوي البشرة الملونة في ظل ثقافات الأجور الأكثر غموضا، لأن الأقران في صناعة ما هم أكثر قدرة على المقارنة وتحديد أوجه عدم المساواة. لكن جو يشير إلى أن شفافية الأجور قد توجد مشكلات أخرى عن طريق دفع هذه الفجوات في الأجور نحو الاختلافات في المستويات والحصول على الترقيات. مثلا، إذا كان لدى شركة ما مائة شخص يحملون المسمى الوظيفي نفسه لكنهم يتقاضون رواتب مختلفة، فقد تقوم الشركة عندئذ ببساطة بإعادة هيكلة المسميات الوظيفية - مثل مدير مشارك بدلا من مدير كبير - من أجل تبرير الاختلافات في الأجور. وهذا يغير السؤال من كون الشخص قد حصل على أجر عادل إلى ما إذا كان هذا الشخص قد تمت ترقيته بشكل عادل أم لا.
هناك جانب آخر للأجور يجب على الشركات مراعاته عند طرحها لسياسات الشفافية وهو الأجر على أساس الموقع. فمع انتشار القوى العاملة في مناطق مختلفة، قررت بعض الشركات (مثل جوجل) عدم دفع رواتب وادي السليكون أو وول ستريت للموظفين المقيمين في مناطق ذات تكلفة معيشية منخفضة. بينما اتخذت شركات أخرى (مثل بفر وتشارت هوب) موقفا مفاده أن الأجر يمنح مقابل قيمة العمل وليس انعكاسا للموقع الفعلي، وبالتالي التزمت بنطاقات الأجور العالمية. يقول وايت إن بيانات تشارت هوب لما يقارب ألف شركة تشير إلى أن مستويات الأجور تتقارب بين المدن من الدرجة الأولى ذات تكاليف المعيشة المرتفعة، وبين المدن الأخرى الأقل تكلفة في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
أحد التوجهات التي يجب ترقبها في 2023 يتمثل في ارتفاع ميزانيات الحفاظ على الموظفين من خلال زيادة رواتبهم. حيث ضاعفت "مايكروسوفت" ميزانيتها لمنح زيادات على أساس الجدارة، مشيرة إلى رغبتها في الاحتفاظ بأفضل المواهب.
مع حصول الموظفين على مزيد من البيانات حول المبلغ الذي ينبغي أن يدفع لهم، فإن ديناميكية القوة باتت تتحول لمصلحة العمال، على الرغم من التوقعات الاقتصادية. حيث يقول أولوول: "معظم القوة التي كانت تتمتع بها الشركات كانت تستند إلى السرية". لكن هذه السرية آخذة في الانهيار الآن. ويقول أيضا: "لقد حان الوقت كي يكسب الناس ما يحتاجون إليه ليعيشوا حياة سعيدة".

الأكثر قراءة