علامات الترقيم وعاطفة النص.. من الصوت إلى الصورة

علامات الترقيم وعاطفة النص.. من الصوت إلى الصورة

لم يتورع الأديب الفرنسي جوستاف فلوبير عن رهن مصيره بجزئيات وتفاصيل إنشائية، تبدو شكليات بسيطة، حين قال، "بالنسبة لي، أجمل امرأة في العالم لا تساوي فاصلة موضوعة في محلها". لكن ما قد يظهر للعوام شكليا، عادة ما لا يكون كذلك في أعين المبدعين، فنصف الكلام لمن يتحدث والنصف الآخر لمن يصغي، وهذا عبر عنه فولتير بقوله، "أكثر الكتب إفادة هي تلك التي ينجز القراء أنفسهم نصفها".
وذهب الروماني إميل سيوران، فيلسوف التشاؤم الأكبر في الحقبة المعاصرة، أبعد منه في التطرف، حين تحدث عن فقدان لذة النوم بسبب فاصلة، وذلك نتيجة الحرص على جمال اللفظ الذي يبقى، بحسب الكاتب، وقفا على الدين ليس بمقدورهم أن يركنوا إلى اعتقاد راسخ. وإمعانا في التطرف يكشف عن أمنية غريبة وعجيبة، حين قال، "أحلم بعالم قد نقبل فيه الموت من أجل فاصلة".
أليست المفاضلة بين جمال امرأة وموضع فاصلة داخل متن أدبي، أو حتى فقط فقدان النوم بسبب الفاصلة ذاتها، هوسا مرضيا بالشكل لدى طينة من الأدباء. فحتى عهد قريب، كانت النصوص تكتب خالية من أي علامات، فلا فواصل ولا نقط ولا استفهام ولا تعجب. ما يمنح القارئ مطلق الحرية عند القراءة، فلحظتها يصبح في مقام الكاتب، عند توليه استكمال جمالية النص، شكلا ومضمونا، وفق هواه، مثبتا بذلك قول الفيلسوف فولتير.
ما قصة علامات الترقيم إذن ما دام الأمر كذلك؟ وفي أي سياق تاريخي ظهرت هذه الأدوات العجيبة؟ ما مصدر قوتها وسطوتها حد "تحريم" الكتابة بدونها، فغيابها عن النص يعرض كلام صاحبه للغموض، ويجعل فيه لحنا؟ وكيف انتشر هذا النظام من الحركات والعلامات بين لغات العالم بأسره، فكل اللغات دون استثناء، لا تستغني أبدا عن الترقيم في تنظيم الكتابة؟ وهل بقيت على حال أم أنها تطورت، عبر الزمن، بحسب الحاجة والضرورة؟
تاريخيا، يصعب ضبط الظهور الأول لهذه العلامات التي تبقى قديمة قدم الكتابة ذاتها، فهي نتاج تراكم خبرات التدوين، منذ حضارات العالم القديم، ولا سيما الحضارة اليونانية القديمة. وتنسب كتب التاريخ أولى المحاولات إلى المؤلف المسرحي اليوناني أرستوفان الذي ابتكر، من أجل تبسيط عملية القراءة، فكرتين هما، الهوامش، أي تذييل الصفحات بشروح وتوضيحات لما جاء في المتن، ونظام الترقيم، بغرض الفصل بين الجمل بنقطة، تحدد فترة السكوت بحسب طريقة كتابتها، إما علوية (·) وإما سفلية (.) أو متوسطة (·).
لم يقنع هذا الابتكار الرومان، فكان محل نقد من أعلامهم، فعد شيشرون خطيب روما "التحدث بالكلام يقف حين ينتهي نفس المتكلم، وليس بوضع علامات في آخره، لكنه ينتهي بتوحيد قافية عن نهايات أطرافه". لكن انتشار المسيحية في ربوع أوروبا، فرض على الكتاب المسيحيين مراجعة نظام أرستوفان، لضمان إيصال معاني الكتاب المقدس إلى القراء من أتباع الديانة المسيحية.
لذا، انطلق الراهب والموسيقي والأسقف إيزيدور الإشبيلي من حيث انتهى اليوناني، فراجع العلامات مقرنا إياها بالمعنى حسب سياق الكلام، فجعل النقطة السفلية (.) تقوم بوظيفة الفاصلة الحديثة، أما النقطة العلوية (·) فدورها إنهاء الجملة. انتعشت هذه العلامات، خلال القرن الثامن الميلادي، مع جهود الملك شارلمان لتوحيد حروف الأبجدية وطريقة الكتابة بين رعاياه في أوروبا.
توالت الاختراقات بغية تطوير هذه العلامات، واستمر تجديد وابتكار رموز أخرى بحسب ما تفرضه ضرورة الكتابة، خاصة خلال عصر النهضة الأوروبي. استمر الوضع على حاله حتى أواسط القرن 15 حين طور العالم الألماني يوهانز جوتنبرج آلة طباعة الورق، حيث صاغ علامات الترقيم، بشكلها الحالي، في قوالب من الرصاص لغرض الطباعة، ليعلن بذلك نهاية مسيرة طويلة من التطور التي لحقت علامات الترقيم، استمرت عدة قرون.
أسهمت الحملات الاستعمارية في انتشار اللغات الأجنبية ما حمل علامات الترقيم إلى مختلف أصقاع العالم. وكانت الأديبة والمؤرخة اللبنانية زينب فواز أول من حاول، في نهاية القرن التاسع، إدخال هذا النظام إلى اللغة العربية، بعدما اكتشفت أن هذه العلامات "تدل على معان خفية لا تظهر من تركيب الحروف فقط" من خلال احتكاكها باللغة الفرنسية. وذهبت في مسعاها إلى الشرح والتسمية، فتحدثت عن الصفرين (:) للشرح والتوضيح، وعن الألف والصفر (!) للتعبير عن التعجب والاشمئزاز والنداء، وعن القوسين () للإحاطة بجملة لا يؤثر حذفها في المعنى، وعن علامة (؟) للاستفهام في نهاية السؤال دون أن تسميها.
في محاولة لتجاوز الأديبة اللبنانية، سعى الصحافي حسن حسني الطويراني إلى إحداث قطيعة مع الترقيم الغربي، بابتكار علامات عربية خالصة، دون استعارة ما هو سائد في النصوص الأجنبية. فوضع لذلك مؤلفا بعنوان "كتاب خط الإشارات" (1893) لشرح وتفصيل علامات الترقيم التي ربطها بالعلامات الموسيقية، وقسمها إلى ثلاثة أقسام، إشارات المفاهيم، وتضم 54 علامة للقراءة الصامتة. وإشارات الأصوات، وفيها 17 علامة للقراءة الجهرية، تخص الوقف والسرعة والنبرة. وإشارات الأفعال، وتشمل بدورها 14 علامة، تتعلق بالحركات الجسدية التي ينبغي للقارئ استخدامها أثناء القراءة. لكن الكثرة والتشابه في العلامات انعكسا سلبا على مساعي الرجل، فكان الفشل مصير محاولته.
بداية القرن الـ20، أتمم أحمد زكي محاولات زينب فواز بإدخال هذه العلامات المنتشرة في اللغات الأوروبية إلى اللغة العربية، فوضع رسالة بعنوان "الترقيم وعلاماته" (1912)، أكد فيها لزوم انتفاع الكتابة العربية بهذه العلامات، التي تراوح بين السياق ووظيفتها الكتابية، وعلامات الوقف وعلامات النبرات الصوتية وعلامات الحصر وعلامات الإشارات الرياضية.
تلكم رحلة علامات الترقيم عبر التاريخ، وبين مختلف الحضارات والأمم التي حافظت على معظمها، ما عدا بعض الاستثناءات التي تظل حالات خاصة مثلما هو الحال في اللغة الإسبانية، حيث يضعون علامة التعجب مقلوبة (¡) في بداية الجملة، أو اللغة الأردية التي عوضت النقطة (.) بالشرطة (-) في نهاية الجملة. وتبقى اللغة اليابانية أكثر اللغات تطويرا لعلامات الترقيم بإضافة تعبيرات جديدة. وظهر الأمر أكثر عند تدشينهم حقبة جديدة في هذه العلامات، خلال حقبة الكمبيوتر، فهم أصحاب السبق في اختراع الرموز الانفعالية التي تعج بها الأحاديث اليومية على الأجهزة الرقمية.
كانت مساعي القدامى إضفاء نبرة صوتية وإيحائية على النص بهذه العلامات، ما يفيد في النقل الأمين للدلالة والمعنى. ونجح الأمر إلى حد بعيد، فتلك العلامات تسهم في إحياء عاطفة النص من جديد، بين يدي القارئ مانحة إياه روحا. قبل أن يأتي المحدثون برموزهم التعبيرية، فيقدموا الملامح وتقاسيم الصورة على نبرات الصوت والإيماء.. لتتحقق الرموز الجديدة عاطفة الصورة بدل عاطفة النص.

الأكثر قراءة