البيت الأبيض وإفريقيا .. بحث عن أهداف في الوقت بدل الضائع

البيت الأبيض وإفريقيا .. بحث عن أهداف في الوقت بدل الضائع

عودة الولايات المتحدة إلى إفريقيا التي تحولت إلى مسرح عالمي كبير، تعمل قوى دولية وإقليمية جاهدة على صياغة دور لها من خلالها، أشبه بعودة المكره أو المضطر بحثا عن أهداف في الوقت بدل الضائع. فالمتأمل في جدول أعمال القمة الأمريكية - الإفريقية التي احتضنتها العاصمة واشنطن، على مدار ثلاثة أيام، يكتشف أن واشنطن أقدمت على مراجعة رؤيتها تجاه إفريقيا، فمن قارة بلا أهمية استراتيجية، ولا عائد من الاقتران بها سوى المشكلات والأعباء، إلى قارة الفرص والأمل والمستقبل، فالشراكة الكبيرة مع إفريقيا، حسب الرئيس الأمريكي، مفتاح النجاح للعالم، "فعندما تنجح إفريقيا تنجح الولايات المتحدة.. العالم كله ينجح".
حاول الرئيس الأمريكي جاهدا تدارك الخطأ الذي وقعت فيه إدارته، خلال النصف الأول من ولايته، حين انصب تركيزه على منطقتي أوروبا وجنوب شرق آسيا، لمجابهة النفوذ الصيني المتنامي هناك. متناسيا الحضور الاستثنائي للتنين الصيني الذي غزا الجهات الأربع لإفريقيا، مستغلا التراجع البين لنفوذ حلفاء واشنطن في القارة السمراء، فلا فرنسا ولا بريطانيا قادرتان على ملء الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأمريكي، خلال أعوام الرئيس الجمهوري دونالد ترمب الذي يعد أول رئيس أمريكي، منذ رونالد ريغان، لم يقم بزيارة إلى القارة خلال فترته الرئاسية.
فقد استطاعت الصين التغلغل، بفضل قوتها الناعمة، في ربوع إفريقيا، حتى أضحت الشريك التجاري الأول لعدد كبير من دول القارة. فقد مثل حجم التجارة الصينية مع الأفارقة، في 2021، ما يقارب 261 مليار دولار، فيما لم تتعد نظيرتها الأمريكية 64 مليار دولار فقط. وكشف تقرير أمريكي أن الصين تمكنت، في 2020، من إبرام اتفاقيات بقيمة ناهزت 735 مليار دولار مع 623 شركة، فيما فاق عائد 800 صفقة 50 مليار دولار. وداومت الصين، منذ 2000، على الانعقاد المنتظم، كل ثلاثة أعوام، للقمة الصينية الإفريقية.
ونجحت روسيا بدورها في استغلال بحث عدد من الدول الإفريقية عن سوق أسلحة بديلة، عن المعسكر الغربي، الذي يخضع العلاقات التجارية مع عدد من الدول لمنطق الولاء أو حتى الابتزاز أحيانا، فسارعت إلى تقديم خدماتها، لأكثر من 15 بلدا إفريقيا، حتى أضحت روسيا خلال العقد الماضي، وفق بيانات معهد ستوكهولم الدولي للسلام، أكبر مصدر للسلاح إلى القارة الإفريقية. واستطاعت سحب البساط من تحت أقدام فرنسا في عدد من الدول الإفريقية، بتسجيل حضور نوعي لشركاتها الكبرى الخاصة باستخراج واستغلال المعادن، فضلا عن نجاحها في تدشين أول قمة روسية إفريقية، في مدينة سوتشي، في 2019، بتمثيلية إفريقية وازنة.
تعززت حقائق الأرقام هذه، بحقائق أخرى على أرض الواقع، وقفت عليها الولايات المتحدة إبان الحرب الروسية الأوكرانية، ما أصابها بخيبة أمل كبير، على خلفية الموقف الإفريقي شبه الموحد من هذه الحرب، حيث رفضت معظم الدول الانحياز للمحور الغربي، وتحفظت على إدانة العملية العسكرية الروسية، ما فتح أعين الأمريكيين على حجم الهوة الفاصلة بينها وبين دول القارة السمراء، التي اتسع في الأعوام الأخيرة، لتبلغ ذروتها مع جائحة كورونا، بسبب الإحباط الناتج عن عدم التزام الولايات المتحدة تجاه القارة السمراء.
لكل ذلك، حاولت إدارة الرئيس بايدن تصحيح الأمر، منذ مطلع آب (أغسطس) الماضي، بإعلان أنتوني بلينكن من جنوب إفريقيا، استراتيجية جديدة بأربعة أهداف، "دعم المجتمعات المفتوحة، الديمقراطية والأمن، الانتعاش الاقتصادي، والتغيير المناخي" تجاه إفريقيا. عكس ما دأبت عليه إدارة رؤساء سابقين، فبوش الابن مثلا اختار محاربة الإيدز، وفضل أوباما التركيز على مضاعفة إنتاج الكهرباء في القارة.
بعدها بأربعة أشهر فقط، قمة على مستوى الرؤساء في واشنطن، كشفت فيها الولايات المتحدة عن نحو القارة، بالحديث عن وعود نوعية من جانب الإدارة الأمريكية، تمثل في التعهد بالدفاع عن تعزيز تمثيلية دول إفريقيا على الساحة الدولية، واختتام أشغال القمة بإعلان التخطيط لاستثمار 55 مليار دولار في إفريقيا، في غضون ثلاثة أعوام، وإنشاء منصب ممثل رئاسي خاص للتنسيق بشأن تنفيذ مخرجات القمة، يسند إلى السفير السابق جوني كارسون الخبير في الشؤون الإفريقية...
يسعى بايدن جاهدا إلى استعادة الدور القيادي الأمريكي في العالم، ويأمل تحقيق ذلك عبر بوابة إفريقيا، لذا طرحت إدارته، ولأول مرة، استراتيجية ببرامج متعددة، تستهدف عددا من المجالات "الصحة، التغير المناخي، الأمن الغذائي، تحفيز الاستثمار، الطاقة المتجددة...". كما يطمح بهذا العرض المغري إلى إبعاد الأفارقة عن الصين، التي ما فتئت تطلق تحذيراتها بشأن نياتها في القارة، فسياسة الديون الثقيلة، بحسب واشنطن، كمين تحاول بكين نصبه لدول القارة الإفريقية.
وتزيد المؤشرات الديموغرافية من قوة الرهان الأمريكي على العودة إلى إفريقيا، فالرئيس بايدن بنفسه صرح، فيما يشبه تصحيح المنظور السابق، بأن القارة الإفريقية "فرصة وليس مشكلة"، فالأرقام تفيد بأن معدل النمو السكاني في إفريقيا لا نظير له في أي منطقة أخرى في العالم. فدولة مثل نيجيريا سيتعدى سكانها، بحلول منتصف القرن، الولايات المتحدة. ما يعني أن القارة تعد بسوق استهلاكية ضخمة، وقبل ذلك بقوة عاملة نشيطة واعدة في المستقبل.
مهما حاولت أمريكا، وبقية دول المعسكر الغربي العودة إلى إفريقيا، وأيا كانت العروض التي تقدمها قصد الترحيب بها من قبل الأنظمة في القارة السمراء، تظل مشكلة الذاكرة الجماعية الإفريقية أكبر عائق أمام ذلك. فالغرب في العقل الإفريقي واحد، وإن اختلفت التسميات، والذاكرة حبلى بجرائم الاستعمار ومذابح الرجل الأبيض في كل قطر إفريقي.

الأكثر قراءة