كيف نقضي على جائحة التقشف؟
يواجه العالم أزمات متعددة ومتفاقمة، بما في ذلك فيروس كورونا، وأزمة الطاقة، والتضخم، والديون، وتكاليف المعيشة التي لم تعد في المتناول، وعدم الاستقرار السياسي. لذا، فهناك حاجة ملحة جدا إلى اتخاذ إجراءات طموحة. ومع ذلك، فإن الرجوع إلى السياسات الفاشلة مثل التقشف، التي تسمى الآن "التحفظ المالي"، أو "تصحيح أوضاع المالية العامة"، والافتقار إلى مبادرات فاعلة للضرائب وخفض الديون، تهدد بتفاقم عدم استقرار الاقتصاد الكلي، والمصاعب اليومية التي يعانيها مليارات من الناس. وما لم يغير صانعو السياسة سياساتهم، فإن "جائحة التقشف" ستجعل استرداد الانتعاش الاقتصادي العالمي أصعب منالا.
وكما أظهرنا في تقرير حديث، فإن موجة التقشف التي تلوح في الأفق ستكون سابقة لأوانها وقاسية بقدر أكبر مقارنة بـتلك التي أعقبت الأزمة المالية العالمية 2008. ويشير تحليل توقعات نفقات صندوق النقد الدولي إلى أن 143 حكومة ستخفض الإنفاق "كحصة من الناتج المحلي الإجمالي" في 2023، ما سيؤثر في أكثر من 6.7 مليار شخص - أو 85 في المائة من سكان العالم. والواقع أن معظم الحكومات بدأت تخفض من الإنفاق العام في 2021، ومن المتوقع أن يرتفع عدد الدول التي خفضت ميزانياتها حتى 2025. ولأن متوسط خفض الإنفاق من الناتج المحلي الإجمالي بلغ 3.5 في المائة في 2021، كان هذا الانكماش أكبر بكثير مما كان عليه في الصدمات السابقة. وأكثر ما يثير القلق هو أن أكثر من 50 دولة تعتمد تخفيضات مفرطة، ما يعني أن إنفاقها قد تراجع إلى ما دون مستويات ما قبل الوباء "التي كانت منخفضة بالفعل". وتشمل هذه المجموعة عديدا من الدول، بما فيها "غينيا الاستوائية، إسواتيني، غيانا، ليبيريا، ليبيا، السودان، سورينام، واليمن"، كما أن احتياجات تنموية كبيرة لم تلب. إن تدابير التقشف التي تدرسها الحكومات أو تنفذها بالفعل ستلحق ضررا كبيرا بسكانها، خاصة النساء. إذ تخطط بعض الحكومات للحد من الحماية الاجتماعية المخصصة للفئات المستضعفة من السكان، وإيقاف برامج رعاية الأسر وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة، وخفض سقف أجور القطاع العام "ما يعني تقليص عدد العاملين في الخطوط الأمامية مثل المعلمين والعاملين في مجال الصحة"، وإلغاء الإعانات، وتخصيص خدمات النقل، والطاقة، والمياه، وخفض استحقاقات التقاعد، والحد من تدابير حماية العمال ومن مساهمات الضمان الاجتماعي لأصحاب العمل، والتقليص من النفقات الصحية.
ومع موازاة ذلك، تعتمد عديد من الحكومات استراتيجيات قصيرة الأجل لتوليد الدخل سيكون لها أيضا آثار اجتماعية ضارة. وتشمل هذه الاستراتيجيات زيادة ضرائب الاستهلاك - مثل المبيعات التنازلية وضرائب القيمة المضافة - وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وزيادة رسوم الخدمات العامة.
وفي شرق وجنوب إفريقيا، خلصت اليونيسف إلى أن "إسواتيني ـ سوازيلاند سابقاـ، كينيا، مدغشقر، رواندا، وجنوب إفريقيا"، تدرس أو تنفذ ثلاث فئات من تدابير التقشف، بينما تتبع "ليسوتو" أربع فئات، وتعتمد "بوتسوانا" خمس فئات. وتطبق كل من "بوتسوانا، كينيا، مدغشقر، رواندا، أوغندا، وزامبيا"، أربع فئات أو أكثر من التدابير لزيادة الإيرادات. وإضافة إلى تدابير خفض الإنفاق والزيادات الضريبية، فإن كلا من "بوتسوانا، كينيا، مدغشقر، رواندا وزامبيا"، تدرس ما لا يقل عن سبع فئات من تدابير التقشف التي يعرف أنها تخلف آثارا اجتماعية سلبية.
إن هذه الحكومات لا تكتفي باتخاذ إجراءات تقشف قاسية في وقت تواجه فيه المنطقة موجات جفاف غير مسبوقة وأزمة تكاليف المعيشة، بل لا ترغب أيضا في اعتماد السياسات اللازمة للحد من مستويات عدم المساواة المرتفعة بالفعل، مثل فرض معدلات ضرائب أعلى على الشركات والأثرياء. وما لم يتم الحد من التقشف، سيفقد الناس في الدول النامية الحماية الاجتماعية، والخدمات العامة في وقت هم في أمس الحاجة إليها. ووفقا لمنظمة "أوكسفام"، يعيش ما يقرب من نصف سكان العالم على أقل من 5.50 دولار يوميا. وحتى لا ننسى، خصصت تريليونات الدولارات منذ بداية الوباء لدعم الشركات، بينما تحمل الناس العاديون كثيرا من تكاليف التأقلم مع الوباء.
لقد ظهرت مخاطر نهج التقشف الشديد في صورة واضحة خلال العقد الماضي. إذ من 2010 إلى 2019، انقلبت حياة مليارات الأشخاص رأسا على عقب بسبب خفض المعاشات التقاعدية، والمزايا الاجتماعية، وانخفاض الاستثمارات في برامج النساء والأطفال وكبار السن، وتقليص عدد المعلمين وخفض أجورهم، وتراجع الخدمات الصحية، وانخفاض في عدد موظفي الخدمة المدنية المحلية، وارتفاع الأسعار بسبب ضرائب الاستهلاك الأساسية.
ولا يجب أن تكون الأمور على هذا النحو. إذ هناك بدائل لسياسة التقشف. فحتى في أشد الدول فقرا، هناك ما لا يقل عن تسعة خيارات تمويل أخرى تستخدمها بعض الحكومات منذ أعوام، وهي تحظى بتأييد كامل من الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية، وتشمل الضرائب التصاعدية، وإلغاء الديون أو إعادة هيكلتها، وتضييق الخناق على التدفقات المالية غير المشروعة، وزيادة مساهمات أرباب العمل في الضمان الاجتماعي وتغطيتهم من خلال إضفاء الطابع الرسمي على العمال في الاقتصاد غير الرسمي، واستخدام الاحتياطيات المالية واحتياطيات النقد الأجنبي، وإعادة تخصيص النفقات العامة، واعتماد إطار اقتصادي كلي أكثر ملاءمة، وتأمين المساعدة الإنمائية الرسمية، والمخصصات الجديدة للأصول الاحتياطية لصندوق النقد الدولي وحقوق السحب الخاصة.
وبما أن القرارات المالية تؤثر في الجميع، فلا يجب أن تتخذ بسرية، بل من خلال الحوارات الوطنية الشاملة والشفافة التي تشمل النقابات، واتحادات أرباب العمل، ومنظمات المجتمع المدني. ويجب أن تتخلى الحكومات عن تدابير التقشف التي تفيد قلة على حساب الكثيرين. وفقط من خلال استكشاف نهج بديلة، يمكننا دعم الناس والعودة إلى المسار الصحيح نحو تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. إن العالم لا يزال يعاني جائحة، لذا فهو في غنى عن جائحة أخرى.
خاص بـ "الاقتصادية"
بروجيكت سنديكيت، 2022.