الأسواق في خضم تغيير هائل

الأسواق في خضم تغيير هائل

خلال 53 عاما قضيتها في عالم الاستثمار، شهدت عددا من الدورات الاقتصادية، والتقلبات الاقتصادية، والفقاعات والانهيارات، لكني أتذكر فقط تغييرين هائلين حقيقيين. وأرى أننا ربما في خضم تغيير ثالث هذه الأيام.
حدث التغيير الأول في السبعينيات مع ظهور السندات عالية العائد. كان الاستثمار الحكيم في السندات سابقا عبارة عن شراء سندات يفترض أنها آمنة من الدرجة الاستثمارية فقط. لكن أصبح بوسع مديري الاستثمار الآن أن يشتروا بحكمة سندات من أي تصنيف تقريبا ما دامت تعوض عن مخاطرها المصاحبة بالقدر الكافي.
هذا عكس عقلية مستثمر جديدة. أصبحت المخاطر لا تتجنب بالضرورة، إنما تؤخذ في الحسبان نسبة إلى العائد على أمل تحملها بذكاء. كان لعقلية المخاطرة/العائد الجديدة هذه دور بالغ الأهمية في تطوير أنواع استثمار جديدة كثيرة، مثل الأسهم الخاصة، والديون المتعثرة، والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، والائتمان المهيكل، والإقراض الخاص. ليس من المبالغة القول إن عالم الاستثمار اليوم يكاد لا يشبه ما كان عليه قبل 50 عاما.
كان التغيير الكبير التالي هو الانخفاض طويل الأمد في أسعار الفائدة. بدأ هذا الاتجاه بعد بضعة أعوام فقط من ظهور فكر المخاطرة/العائد، وأرى أن الجمع بين الاثنين أدى بدرجة كبيرة إلى أداء سوق الأسهم العجيب على مدى أربعة عقود بدأت في أوائل الثمانينيات. ارتفع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 من انخفاض عند 102 في آب (أغسطس) 1982 إلى 4796 في بداية 2022، بعائد سنوي مركب بلغ 10.3 في المائة سنويا.
من الواضح أن عوامل متعددة أدت إلى نجاح المستثمرين خلال هذه الفترة، منها النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة، والأداء القوي لأكبر الشركات في الدولة، والمكاسب في التكنولوجيا والإنتاجية وتقنيات الإدارة، وفوائد العولمة. مع ذلك، سأتفاجأ إذا لم تسهم 40 عاما من انخفاض أسعار الفائدة في الدور الأكبر على الإطلاق.
ربما وصلت هذه الحقبة إلى ذروتها في الفترة من 2009 إلى 2021 "باستثناء بضعة أشهر في 2020". كانت هذه سوقا لمالكي الأصول وسوقا للمقترضين. مع اقتراب معدل العائد المضمون من الصفر وحماس الأشخاص للإقدام على استثمارات محفوفة بالمخاطر، كانت فترة محبطة للمقرضين ومقتنصي الصفقات.
بالطبع، انقلب كل ما سبق العام الماضي. والأهم من ذلك، أن التضخم، الذي بدأ في الظهور أوائل 2021، تسبب في شروع الاحتياطي الفيدرالي في واحدة من أسرع دورات رفع أسعار الفائدة في تاريخه في 2022. نتيجة لذلك، اختفت السوق التي اتسمت بالمال السهل والمقترضين ومالكي الأصول المتفائلين. فجأة، أصبح المقرضون والمشترون في موقف أقوى. صار مستثمرو الائتمان مثل "أوكتري" في وضع أفضل للمطالبة بعوائد أعلى وحماية أقوى للدائنين. ارتفعت قائمة القروض والسندات التي يتم تداولها عند مستويات متعثرة من عشرات إلى مئات.
باختصار، بدا الأمر كأنه انعكاس تام للظروف التي سادت في معظم الأعوام الـ40 الماضية.
من وجهة نظري، كان دافع المشترين الذين حركوا ارتفاع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 الأخير 10 في المائة من انخفاض تشرين الأول (أكتوبر) هو الاعتقاد بأن الاقتصاد والأسواق سيعودان إلى الأيام الذهبية لتلك الحقبة السابقة. هم يعتقدون فيما يبدو أن التضخم يتراجع، وسيحول الاحتياطي الفيدرالي اتجاهه قريبا ويخفض أسعار الفائدة، وسنتجنب الركود، أو سيصبح معتدلا وقصيرا. لكن هل هذه المعتقدات مبررة؟
كما كتبت عدة مرات عن الاقتصاد والأسواق، نحن لا نعرف أبدا إلى أين نتجه، لكن علينا معرفة أين نحن. خلاصة القول مما أرى هي أن الظروف في هذه اللحظة، من نواح كثيرة، تختلف اختلافا شاسعا - وفي الغالب أقل إيجابية - عن الظروف التي حلت في طقس ما بعد الأزمة المالية. ربما تبقى هذه التغييرات فترة طويلة، أو ربما تتلاشى بمرور الوقت. لكن من وجهة نظري، من غير المرجح أن نشهد عودة سريعة إلى التفاؤل والسهولة نفسهما اللتين ميزتا الفترة التي تلت 2009.
لقد انتقلنا من عالم العائد المنخفض في 2009- 2021 إلى عالم العائد الكامل. يمكن للمستثمرين الآن جني عوائد ممتازة من أدوات الائتمان، ما يعني أنهم لم يعودوا مضطرين إلى الاعتماد بصورة كبيرة على الاستثمارات ذات المخاطر العالية لبلوغ أهدافهم في تحقيق العائد الإجمالي.
أمام المقرضين ومقتنصي الصفقات توقعات أفضل بكثير في هذه البيئة المتغيرة مما كان أمامهم في 2009-2021. الأهم من ذلك، إذا سلمت بأن البيئة كانت وستظل مختلفة تماما عما كانت على مدى الأعوام الـ13 الماضية - ومعظم الأعوام الـ40 الماضية - فيجب أن تتبع ذلك بقبول أن استراتيجيات الاستثمار التي نجحت خلال تلك الفترات قد لا تكون هي الاستراتيجيات الناجحة في الأعوام المقبلة. هذا هو التغيير الهائل الذي أتحدث عنه.

*مؤسس مشارك ورئيس مشارك لأوكتري كابيتال مانجمينت ومؤلف كتاب "إتقان دورة السوق".

الأكثر قراءة