خسائر البنوك المركزية في اليورو .. ضغط سياسي وتهديد للاستقلالية
عندما تخبر شركة مساهميها بأنها تتوقع تكبد خسائر بقيمة تسعة مليارات يورو على مدى الأعوام الخمسة المقبلة، التي من شأنها أن تمحو جميع مخصصاتها وأسهمها، فعادة ما يؤدي ذلك إلى أزمة وجودية. يبدو أن القواعد العادية لا تنطبق على البنك المركزي البلجيكي.
أدى تحذير بنك بلجيكا الوطني - الذي تضمن إلغاء توزيعاته الرئيسة للأرباح هذا العام - إلى انخفاض أسهمه نحو 18 في المائة الأسبوع الماضي. لكنه كان لا يزال قادرا على طمأنة المستثمرين بأن مشكلاته المالية "لن تثير الشكوك حول استقراره".
قالت المؤسسة التي يبلغ عمرها 172 عاما، التي تعد واحدة من البنوك المركزية الوطنية الـ19 التي تشترك في اليورو ومن المساهمين الرئيسين في البنك المركزي الأوروبي، "في النهاية، يمكن لبنك مركزي الاستمرار في العمل، مؤقتا على الأقل، بمركز رأسمالي سالب".
مع رفع البنوك المركزية حول العالم أسعار الفائدة بحدة لمعالجة التضخم المرتفع وإلغاء عمليات شرائها الضخمة للسندات، يتوقع اقتصاديون أن يتكبد كثير منها خسائر كبيرة، حيث يتعين عليها الآن دفع فوائد للبنوك التجارية أكثر مما تكسبه من مجالات أخرى.
سيتعين على البنوك المركزية في جميع أنحاء منطقة اليورو دفع نحو 70 مليار يورو من الفائدة على ودائع البنوك التجارية العام المقبل، وفقا لتقدير فريدريك دوكروزيت، رئيس أبحاث الاقتصاد الكلي في شركة بيكتيت ويلث منجمنت. هذا المبلغ أكبر بكثير من الأعوام الأخيرة نتيجة للتسهيل النقدي المكثف من البنك المركزي الأوروبي من 2014 إلى 2021، عندما كانت أسعار الفائدة السالبة تعني أن المقرضين يدفعون لإيداع الأموال في البنك المركزي.
حذر دوكروزيت من أن حجم المدفوعات على الودائع سيؤدي إلى دفع كثير من البنوك المركزية في منطقة اليورو إلى الإفلاس، مضيفا أن بعضها "قد يواجه ضغوطا سياسية متزايدة لإعادة الرسملة".
يعتقد بعض أن هذا سيكون بمنزلة "زوبعة في فنجان"، كما قال بيت هينز كريستيانسين الخبير الاستراتيجي، من بنك دانسكي، مشيرا إلى أن البنوك المركزية لا تهدف إلى جني الأرباح ولا يمكنها أن تفلس عندما تكون لديها القدرة على طباعة النقود، حيث تكسب عائدا من إنتاج العملة من خلال عملية تسمى برسوم سك العملة.
من جانبه، قال إريك نيلسن، كبير المستشارين الاقتصاديين لبنك يوني كرديت الإيطالي "لا يهم ذلك من الناحية الاقتصادية، لأن البنك المركزي يمكن أن يعمل جيدا برأسمال أقل، بل حتى برأسمال سلبي".
لقد وصلت بعض البنوك المركزية بالفعل إلى منطقة رأس المال السالب في الماضي دون أن يتسبب ذلك في مشكلات كبيرة، بما في ذلك تلك الموجودة في جمهورية التشيك والسويد وتشيلي والمكسيك.
مع ذلك، يحذر آخرون من أن الخسائر المتزايدة يمكن أن يكون لها بعض الآثار الجانبية غير المرحب بها. معظم السلطات النقدية مؤممة. وجزء من أرباحها - بما في ذلك أرباح بنك بلجيكا، المملوك للدولة بنسبة 50 في المائة - يتم دفعه لوزارات المالية.
لذلك، توزيعات الأرباح المنخفضة من البنوك المركزية ستضر بالمالية العامة. إذا أصبحت الخسائر كبيرة جدا، فقد تحتاج إلى عمليات إنقاذ حكومية تخاطر بزيادة الضغط السياسي وتهديد استقلالها.
قالت ساندرا فيليبون، كبيرة الاقتصاديين في بنك إيه بي إن أمرو الهولندي "من الصعب تحديد إذا ما كان ذلك سيعني في نهاية المطاف فقدان الاستقلالية. بالطبع، لا تساعد إعادة الرسملة من الدول البنوك المركزية على أن تكون أكثر استقلالية".
على مدار العقد الماضي، حققت البنوك المركزية في منطقة اليورو أرباحا جيدة، بلغ مجموعها نحو 300 مليار يورو بين 2012 و2021، يرجع الفضل في ذلك بشكل أساسي إلى الدخل على السندات التي اشترتها خلال هذا الوقت والفائدة السالبة المكتسبة على ودائع البنوك التجارية.
بينما ذهب جزء من هذه الأرباح إلى الحكومات الوطنية، استخدمت أيضا جزءا كبيرا لبناء احتياطيات يمكنها أن تمتص الخسائر عندما تنهي سياساتها النقدية الفضفاضة للغاية.
قال البنك المركزي الأوروبي، مثلا، "إنه بنى مع 19 بنكا مركزيا وطنيا في منطقة اليورو 116 مليار يورو من المخصصات و113 مليار يورو من الاحتياطيات ورأس المال"، مضيفا أن "صافي رأس المال كبير بما يكفي لتحمل النقص المحتمل".
كما تعاني بعض البنوك المركزية خسائر في محافظ السندات الكبيرة التي اشترتها خلال الأعوام الأخيرة. أعلن الاحتياطي الأسترالي أخيرا خسارة محاسبية بقيمة 37 مليار دولار أسترالي "25 مليار دولار أمريكي" في برنامج شراء السندات للجائحة، ما تركه في مركز رأس مال سالب بقيمة 12 مليار دولار أسترالي.
قدر مكتب مسؤولية الميزانية في المملكة المتحدة أن الحكومة ستحتاج إلى دفع 133 مليار جنيه استرليني لبنك إنجلترا على مدى الأعوام الخمسة المقبلة لتغطية الخسائر في محفظة التسهيل الكمي الخاصة به.
كما استثمرت بعض البنوك المركزية أموالها الخاصة في الأوراق المالية، ما عرضها لخسائر بعد أن انخفضت قيمتها. من الأمثلة المتطرفة على ذلك البنك الوطني السويسري، الذي حذر في تشرين الأول (أكتوبر) من أنه حقق بالفعل خسارة قياسية بلغت 142.4 مليار فرنك سويسري "152 مليار دولار" في الأشهر التسعة الأولى من هذا العام، معظمها من خسائر استثماراته باستخدام احتياطيات العملات الأجنبية الخاصة به.
يمكن للبنوك المركزية الكبرى، مثل البنك المركزي الأوروبي والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، التعامل مع أي رأس مال سالب عن طريق تجميع "الأصول المؤجلة" حتى تعود إلى الربحية، الأمر الذي سيسمح لها بتجنب الإنقاذ الحكومي.
لكن هذا السيناريو سيكون غير مريح، ولا سيما عندما كان البنك المركزي الأوروبي ناقدا علنيا للبنوك المركزية الأوروبية الأخرى، مثل البنك الوطني التشيكي، لامتلاكها رأسمال سالب. كما أنه سيأتي في وقت يتصاعد فيه النقد السياسي من جانب السياسيين بشأن استجابة السياسة النقدية لارتفاع التضخم.
قال كارستن برزيسكي، رئيس قسم الأبحاث الكلية في البنك الهولندي آي إن جي "خاصة في وضع تحاول فيه البنوك المركزية جاهدة استعادة مصداقيتها كمحاربة للتضخم، سيكون لرأس المال السالب نتائج عكسية".