العرب والصين .. إرث مشترك ونموذج قابل للاستيراد
دخلت العلاقات العربية - الصينية منعطفا جديدا، في أعقاب الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينج - الذي لم يغادر بلاده منذ جائحة كورونا سوى مرة واحدة - إلى المملكة العربية السعودية التي استضافت القمة العربية الصينية الأولى. تخللت هذه الزيارة ثلاث قمم، حيث امتزج الحدث السعودي بالحدث الخليجي، وهما معا بالحدث العربي، ما يعد تدشين انطلاقة جديدة في العلاقات بين العرب والصين.
صحيح أن فكرة إنشاء منتدى التعاون الصيني - العربي قديمة نسبيا، حيث تعود بداية ظهورها إلى عام 2004، لكن الجرأة والتفعيل على أرض الواقع من بنات أفكار القيادة العربية الحالية، التي ترى أن السياق العالمي يفرض على العرب الحرص على تنويع الشركاء الاستراتيجيين، فحالة الاستقطاب التي يعيشها النظام الدولي، وما رافقها من عجز للأمم المتحدة عن حل الأزمات المحلية والعالمية، تدفع الدول العربية نحو السعي وراء مصالحها، دون اهتمام بسياسة الأحلاف والمحاور.
كانت مضامين بيان القمة السعودية - الصينية واضحة في تأكيد "أهمية إيجاد حلول سلمية وسياسية للقضايا الساخنة في المنطقة، عبر الحوار والتشاور على أساس احترام سيادة دول المنطقة، واستقلالها وسلامة أراضيها"، فالرياض ومعها باقي العواصم العربية، تؤمن بالعمل مع جميع الشركاء في العالم، بعيدا عن أي استقطاب أو ولاء. بهذا يصحح العرب فكرة سائدة مفادها أنهم لا ينظرون إلى العلاقات مع واشنطن وبكين على أنها لعبة محصلتها صفر، فسبل البحث عن مصالحهم الخاصة قد لا تتطابق بالضرورة مع مصالح الآخرين.
فكرة لا تستسيغها واشنطن كثيرا، فمن أندر التعليقات ما صدر عن البيت الأبيض تزامنا مع زيارة الرئيس الصيني للمملكة، فقد عد الأمر "مثالا على محاولات الصين بسط نفوذها في أنحاء العالم"، بهذا المنطق الفج يكون الرئيس الصيني ملزما - قبل تلبية أي دعوة موجهة من نظرائه لزيارة دولهم - بتقديم ما يفند اتهامات واشنطن، في منطق غريب من نوعه، يكشف حجم انفصال الأمريكيين عن الواقع.
وزاد توالي أيام الزيارة في إظهار مشاعر الأمريكيين الحقيقية، حين قالوا "إن محاولة الصين توسيع نطاقها في العالم لا يتلاءم مع قواعد النظام الدولي". وبلغ الأمر بالناطق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض درجة إصدار تحذير لبكين بقوله "نحن مدركون للنفوذ الذي تحاول الصين توسيعه حول العالم. الشرق الأوسط هو بالتأكيد من بين هذه المناطق حيث يرغبون في تعميق نفوذهم".
بعيدا عن معطيات التاريخ التي تثبت، بشكل قاطع، عراقة العلاقات العربية الصينية، نشير إلى أن الانفتاح الصيني على العالم لم يكن قرار اللحظة الراهنة، إنما سياسة دولة ظل زعماء الصين أوفياء لها منذ إعلان الصين التخلي عن الشيوعية الصلبة، والسعي نحو اشتراكية السوق، مع ما يقتضيه ذلك من انفتاح على الأسواق الدولية، أي بداية كسر بكين عزلتها الدولية.
علاوة على أن التوتر الذي يطبع المحاور التقليدية، وموازين القوى في المعادلات الإقليمية، يحتم على الأطراف المؤثرة، بقوتها الناعمة، في صناعة القرار الدولي، البحث عن شراكات جديدة تدعم دبلوماسيتها، خاصة عندما تكون هذه الأخيرة عاملا يعزز الفرص الاقتصادية والاستثمارية، كما هي الحال مع الصين صاحبة مبادرة "الحزام والطريق"، حيث تتوارى السياسة والأيديولوجيا مفسحة الطريق أمام الاقتصاد والتعاون، فمعيار القوة في عالم اليوم لا يقاس بالقوة والسلاح، إنما بمستوى التشبيك والعلاقات الاقتصادية.
يذكر أن العلاقات الصينية العربية شهدت تطورا متسارعا، خلال القرن الـ21، حيث انتقلت من الجوانب السياسية، ودعم حركات التحرر، لتشمل التعاون الاقتصادي الذي بات العنوان الأبرز للصداقة بين الطرفين. ما جعل الصين أكبر شريك تجاري للدول العربية مجتمعة، والمستثمر الأول فيها. وصار العرب بدورهم الشريك التجاري السابع للصين، وموردها الأول من النفط الخام.
تبدو الصين، من جانبها، أكثر واقعية من الولايات المتحدة الأمريكية في موضوع مجالات التعاون مع الدول العربية، فقد سبق للرئيس الصيني أن استعرض ملامح هذه الاستراتيجية في الاجتماع الـ14 لقادة "بريكس"، صيف العام الجاري، وبلغ مستوى تحديد المجالات الثمانية ذات الأولوية في التعاون بين بكين والعرب.
من شأن احتكاك العرب بالصين أن يتيح لهم فرصة معاينة النموذج الصيني عن قرب، فما تقدمه بكين من مبادرات "الحزام والطريق مثلا" تكتنفه تجربة صينية خالصة، يمكن الاستئناس بها في طريق النجاح، ولم لا حتى تبنيها، قصد تحقيق الاستقلال عن الغرب، عبر الاهتمام بمداخل الإصلاح المجتمعي التي قامت بها.
تظل الصين، - مقارنة بالدول الغربية - وفية في تعاونها البيني إلى منطق رابح/ رابح، بعيدا عن أي أيديولوجيا أو قيم، أو حتى قيود وضوابط، تتعارض مع التاريخ والثقافة والقيم الوطنية للدولة. كما أن نجاح حصان الاقتصاد الصيني في جر عربة السياسة والثقافة والحضارة، خير مؤشر على وجود فرص وإمكانات تسمح بتبيئة التجربة الصينية في السياق العربي.
ثمت أكثر من مؤشر على فرص وإمكانات نجاح النموذج الصيني في العالم العربي، يبقى أبرزها التقارب المجتمعي والقيمي بين العرب والصينيين، فالتقاليد والعادات والطقوس متقاربة بين هذه الشعوب. علاوة على كون الصين قوة غير استعمارية، ما يجعل سجلها التاريخي نظيفا في أعين الشعوب العربية.
علاوة على اللحظة الانتقالية شديدة الخصوصية التي يمر بها النظام العالمي الحالي، ما يتيح مجالا أكبر للمناورة والتجريب والاختيار، ولم حتى تحقيق نهضة وتحول، بعيدا عن رقابة وسطوة الغرب. حقيقة التقطتها بذكاء القيادات السياسية العربية، من خلال قراءتها الدقيقة لتحولات المشهد العالمي، فسعت نحو تدشين مشاريع وطنية لدولها، تجعلها في معزل عن الارتهان لهذا الحلف أو ذاك المحور.. فالمصلحة ضالتهم، أينما وجدوها فأوطانهم وشعوبهم أولى بها.