الاضطراب المالي .. البحث عن الصدع التالي في السوق
بعد عقد من انخفاض أسعار الفائدة وسخاء البنوك المركزية، تواجه الأسواق المالية العالمية تصفية حسابات.
يقابل التضخم المتصاعد أسعار فائدة آخذة بالارتفاع وتباطؤ شراء البنوك المركزية للأصول وصدمات مالية، التي سحبت جميعها السيولة، وهي القدرة على إبرام الصفقات دون تحريك الأسعار بشكل كبير، من الأسواق.
يمكن لتحركات الأسعار العنيفة والمفاجئة في إحدى الأسواق أن تثير حلقة مفرغة من طلبات تغطية الهامش وعمليات بيع إجبارية للأصول الأخرى، مع نتائج لا يمكن التنبؤ بها.
قالت إيلين ستوكس، مديرة محفظة في شركة لوميس سايلز، "السوق غير سائلة للغاية وغير منتظمة ومتقلبة جدا. وتتداول على كل موجة اندفاع ولا يمكننا الاستمرار في فعل ذلك".
يولي صانعو السياسة اهتماما كبيرا لمخاطر هبوط السوق والاستقرار المالي، حيث حذر نائب رئيس الاحتياطي الفيدرالي الشهر الماضي من أن "صدمة قد تؤدي إلى تضخيم نقاط الضعف".
يتم التدقيق في الصدمات المتباينة - مثل إغلاق سوق النيكل في لندن، أو إنقاذ مزودي الطاقة الأوروبيين، أو أزمة المعاشات التقاعدية السريعة في المملكة المتحدة الناجمة عن الاضطرابات في أسعار السندات الحكومية في البلد - باعتبارها روئ لاضطرابات أوسع مقبلة.
مع ارتفاع المخاطر، يراقب المستثمرون بعض أجزاء السوق من كثب أكثر من غيرها.
أسواق إعادة الشراء الأوروبية
يؤدي التحول السريع إلى أسعار فائدة أعلى إلى حدوث خلل في أسواق المال الأوروبية، ما يهدد بتقويض الجهود المبذولة لتشديد السياسة النقدية.
إن إرث عمليات شراء الأصول على نطاق واسع، والمعروفة بالتسهيل الكمي، في منطقة اليورو والمملكة المتحدة هو تدفق السيولة على شكل احتياطيات البنوك المركزية التي تم إنشاؤها لشراء السندات الحكومية. لقد تم جمع هذه السندات من البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا، ما ترك القليل نسبيا متاحا للمستثمرين.
قد تضر ندرة الديون قصيرة الأجل الآمنة بسوق إعادة الشراء "الريبو" في منطقة اليورو التي تبلغ قيمتها عشرة تريليونات يورو، كما حذرت في وقت سابق من هذا العام الرابطة الدولية لأسواق المال، التي تمثل أكبر اللاعبين في أسواق السندات العالمية.
تعد سوق إعادة الشراء التي لا تحظى بكثير من المتابعة عنصر تسهيل مهم في التداول اليومي، حيث تتيح للمستثمرين الحصول على قرض نقدي قصير الأجل مقابل الأصول التي يمتلكونها.
جادلت الرابطة الدولية لأسواق المال أن النقص يشوه أسعار الفائدة للضمانات الممتازة مثل ديون الحكومة قصيرة الأجل، ويدفعها إلى ما دون سعر فائدة الودائع لدى البنك المركزي الأوروبي، الذي ارتفع إلى 1.5 في المائة الشهر الماضي بعد أن ارتفع فوق الصفر في أيلول (سبتمبر) للمرة الأولى منذ أكثر من عقد.
لقد استحوذت ديناميكية مشابهة على أسواق المملكة المتحدة، حيث انخفض مؤشر أسواق إعادة الشراء لليلة واحدة، في بداية تشرين الثاني (نوفمبر)، إلى ما دون سعر الفائدة الأساسي لبنك إنجلترا بمقدار قياسي، وفقا لمحللين في شركة أي إن جي. وعادة ما تتفاقم هذه التشوهات في نهاية ربع العام ونهاية العام.
حثت الرابطة الدولية لسوق المال البنك المركزي الأوروبي على إنشاء تسهيل للريبو العكسي مشابه للذي قدمه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في 2013. من شأن ذلك أن يسمح للبنك المركزي بتخفيف ضغط الضمانات عن طريق إقراض بعض السندات التي يحتفظ بها من برامجه الشاملة لشراء الأصول.
جاءت هذه الدعوة على الرغم من تحرك البنك في تشرين الأول (أكتوبر) لمعالجة مشكلة الشح عبر إنشاء مزيد من سندات الدين الحكومية التي يمكن أن تقرضها للمستثمرين في أسواق الريبو.
قال أنطوان بوفيت، محلل استراتيجي لأسعار الفائدة في شركة أي إن جي، "تجري البنوك المركزية فعليا تجربة غير مسبوقة من خلال رفع الأسعار عندما تكون السيولة في النظام عند هذه المستويات العالية".
نقص السيولة في سوق الخزانة الأمريكية
لطالما كانت السيولة السمة المميزة لسوق الخزانة الأمريكية. لكنها جفت مع رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة عاليا، وتراجع كبار حاملي ديون الخزانة مثل الاحتياطي الفيدرالي وبنك اليابان.
أدى الاضطراب في السيولة إلى تشكيك بعض المستثمرين في عافية السوق عموما. إن أي أزمة في سوق الخزانة سيكون لها عواقب بعيدة المدى، لأن عوائد سندات الخزانة تحدد كل شيء من معدلات الرهن العقاري إلى تكلفة اقتراض الحكومة الأمريكية. إنها العمود الفقري للنظام المالي العالمي والمعيار لجميع الأصول الأمريكية الأخرى، لذا فإن التقلبات الكبيرة في الأسعار من شأنها أن ترتد عبر الأسواق.
علاوة على حالة عدم اليقين والتقلب في السوق هذا العام التي جعلت تداول سندات الخزانة أكثر صعوبة، يجادل المستثمرون الحذرون أيضا بأن مشكلات السيولة هي نتاج مشكلات هيكلية طويلة الأمد. بعضها كان موجودا على الدوام، لكنها برزت مع نمو حجم سوق الخزانة. ظهر بعضها كلوائح تنظيمية في أعقاب الأزمة المالية في 2007 إلى 2009 - التي أجبرت البنوك على أن يكون لديها احتياطات رأسمالية أكبر - جعلت حيازة سندات الخزانة أكثر تكلفة بالنسبة لها. منذ ذلك الحين، انسحبت تلك البنوك، التي تعد مزودة السيولة التقليدية، من السوق.
هذا يعني أنه في حالة حدوث أزمة، قد تؤدي المشكلات الهيكلية إلى تفاقم أي عمليات بيع كثيفة، كما رأينا في آذار (مارس) 2020. لكن مشكلات السيولة الحالية في سوق الخزانة تعني أيضا أنها قد لا تحتاج إلى حدث مربك مثل بداية جائحة عالمية لإثارة عمليات بيع كثيفة. إذا أدت بعض الخطوات الخاطئة إلى اندفاع نحو النقد، فقد يواجه المستثمرون مشكلة في بيع سندات الخزانة، ما يؤدي إلى تقلبات كبيرة في الأسعار، الأمر الذي ينتج عنه فجوات كبيرة بما يكفي في الأسعار تؤدي إلى البيع الاضطراري.
خلل في ديون الحكومة اليابانية
لبضعة أشهر حتى الآن، ونظرا إلى أن بنك اليابان قد اضطر للعمل بجد أكثر من أي وقت مضى للحفاظ على أسعار الفائدة على السندات القياسية لأجل عشرة أعوام قريبة من الصفر في إطار سياسته "للتحكم في منحنى العائد"، تصاعدت التكهنات حول ما إذا كانت الأسواق ستجبر في النهاية محافظ البنك المركزي، هاروهيكو كورودا، على التراجع وتخفيف السياسة.
يميل محللو أسعار الفائدة اليابانية ومراقبو بنك اليابان إلى الاعتقاد بأنه لن يفعل ذلك، ويعتقد متداولون وصناديق أجنبية أنه قد يفعل ذلك.
يقول المحللون إنه من الناحية المنطقية سيكون بنك اليابان حذرا بشكل استثنائي بشأن الخروج من التحكم في منحنى العائد، بسبب احتمال أن يرسل خروج غير منظم صدمات حول العالم.
تتصدر ذاكرة البنوك المركزية اليابانية تجربة 2015 للبنك الوطني السويسري، الذي رفع فجأة سقفه على الفرنك، ما أدى إلى تأثير كبير في الأسواق العالمية.
إن سويسرا، مقارنة باليابان، بلد صغير، والاضطراب الذي قد ينجم عن استسلام مشابه سيكون هائلا. ستنخفض الأسهم المحلية، مع تأثير مضاعف من انهيار الأسهم اليابانية، ما يحول الصناديق العالمية إلى بائعة مضطرة.
أشار الخبير الاقتصادي في دويتشه بنك، كينتارو كوياما، إلى أنه في محضر اجتماع السياسة النقدية لبنك اليابان في سبتمبر، تحدث أحد أعضاء مجلس الإدارة عن الخلل المتزايد في أسواق السندات.
قال كوياما، "نعدها خطوة مهمة نحو الاعتراف بين أعضاء مجلس الإدارة بأداء الأسواق المتعثرة".
عالقون في الائتمان
لأعوام، حذر مستثمرو سندات الشركات والقروض من مخاطر الصناديق المتداولة في البورصة خلال الأزمات، ما أثار مخاوف بشأن كيفية تعامل الأدوات الشائعة مع عمليات الاسترداد الكبيرة في عمليات البيع الكثيفة.
لكن الآن، نظرا إلى أن حجم كل من الائتمان الخاص وأسواق القروض المرفوعة قد تضخم على مدى الأعوام القليلة الماضية، فإن الصناديق المتداولة تعد أقل خطورة. بدلا من ذلك، تحول التركيز إلى الصناديق المشتركة وغيرها من الأدوات التي كانت تعمل على امتصاص الارتفاع الأخير في الديون الخطرة.
دق كل من الاحتياطي الفيدرالي وصندوق النقد الدولي ناقوس الخطر بشأن هذه المسألة. في أسوأ السيناريوهات، سيتعين على الصندوق الذي يعاني تدفقات كبيرة إلى الخارج مع انخفاض أسعار السندات أو القروض أن يوقف عمليات الاسترداد، ما يؤدي إلى محاصرة رأس المال وربما يؤدي إلى تفكيك الصندوق. من المحتمل أن يتجه المستثمرون القلقون من احتمالية حدوث مشكلة إلى الخروج مبكرا، ما يزيد الأمور سوءا لمن ينتظرون وراءهم.
أدت حقيقة أن التداعيات شوهدت في أجزاء عالية الجودة من سوق الائتمان الأمريكية عندما تعرضت صناديق التقاعد في المملكة المتحدة لطلبات تغطية الهامش إلى زيادة المخاوف، نظرا إلى أن كثيرا من المستثمرين قد تزاحموا في السندات والقروض غير السائلة.
كما فتح صعود الائتمان الخاص الباب أمام مشكلات جديدة، حيث حذر صناع السياسة والجهات التنظيمية من أنهم لا يملكون سوى القليل من البصيرة في الصناعة المنزلية. يتم تداول هذه الديون بشكل أقل تواترا - هذا إن تم تداولها. حتى مع وجود الديون في الصناديق التي تتطلب التزامات رأسمالية أطول، فمن غير الواضح كيف يمكن للهبات والمعاشات التقاعدية محاولة بيع حصصها خلال أزمة. لا تزال السوق الثانوية ناشئة، وإن كانت تنمو.
أضاف ستوكس من شركة لوميس سايلز، "سنشهد انهيارا في الأسواق الخاصة. لقد تحول كل معاش تقاعدي أو هبة إليها".
التخلف عن السداد في الأسواق الناشئة
هناك خطران يهددان الاستقرار المالي بالنسبة إلى مستثمري الأسواق الناشئة.
يكمن الخوف المباشر في حالات التخلف عن السداد لكثير من الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، حيث إن ارتفاع أسعار الفائدة والدولار القوي يجعلان من الصعب خدمة الديون في الدولار.
تقول وكالات التصنيف الائتماني إن 26 بلد ناميا، نحو ثلث تلك التي لديها سندات أوروبية سيادية، معرضة بشكل كبير لخطر التخلف عن السداد أو مضاربة للغاية أو متخلفة عن السداد بالفعل.
مع ذلك، فإن انكشاف المستثمرين أقل إثارة للقلق. شكلت الدول البالغ عددها 15 التي تم تداول سنداتها عند مستويات متعثرة في تشرين الأول (أكتوبر) 6.7 في المائة فقط من مؤشر جيه بي مورجان أي إم بي أي "سندات الأسواق الناشئة" للسندات الأوروبية السيادية.
لكن المستثمرين أصبحوا غير مستعدين لتمويل حكومات بعض الاقتصادات الناشئة الأكبر. لقد وصلت عوائد السندات المحلية لأجل عشرة أعوام في بولندا، وكولومبيا وجنوب إفريقيا إلى أعلى مستوياتها في 20 عاما. تتعرض وغيرها من جهات الإصدار لضربة جراء التضخم المرتفع أو الاختلالات المالية الكبيرة أو كليهما. يشعر المستثمرون بالقلق من أن الاقتصادات لن تنمو بسرعة كافية لكي توقف الحكومات خروج ارتفاع نسب الديون عن السيطرة.
بلغت عوائد بولندا ذروتها عند 9 في المائة في أكتوبر. وتبلغ نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي فيها نحو 55 في المائة. يبدو هذا غير إشكالي إلى جانب البرازيل، حيث تبلغ العوائد المماثلة 12 في المائة، ويقترب معدل الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي من 90 في المائة. مع ذلك، ظلت عوائد البرازيل مستقرة إلى حد كبير على مدار الـ15 عاما الماضية.
يتجنب المستثمرون بولندا لأن أجل استحقاق ديونها قصير، حيث يبلغ نحو أربعة أعوام في المتوسط. لكن القلق بشأن نقطة الهبوط للتضخم وأسعار الفائدة، بافتراض انخفاضها من أعلى مستوياتها الحالية، يمكن أن ينتشر بسرعة.
قال مانيك نارين، استراتيجي الأسواق الناشئة في بنك يو بي إس، "لا توجد عتبة سحرية تصبح عندها هذه الديون مشكلة. لكنها تفرض التقشف على الحكومات ويمكن أن تؤدي إلى هروب رأس المال".