كرة القدم .. «أفدح جرائم إنجلترا»

كرة القدم .. «أفدح جرائم إنجلترا»
خورخي لويس بورخيس عميد الأدب الأرجنتيني
كرة القدم .. «أفدح جرائم إنجلترا»
"الحياة نفسها عبارة عن لعبة كرة قدم".

يتابع العالم بأسره أطوار الأدوار النهائية لبطولة كأس العالم في قطر، باهتمام وشغف قلما حظيت بهما، عبر التاريخ، رياضة أخرى غير كرة القدم. ما أسهم في نسج قصص وتوليد حكايات، ترقى إلى مستوى الخرافة أحيانا، عن خبايا عوالم كرة القدم. لكن الكثير للملاحظة أن تأثير هذه الرياضة ظل أسير المستطيل الأخضر، وفي المدرجات داخل الملاعب وبين المشجعين، ولم يمتد إلى عوالم أخرى كالأدب، فالحضور الكروي في المتن الأدبي جد متواضع قياسا بنسبة انتشار ومدى شعبية هذه اللعبة على الصعيد العالمي.
شاعت سردية تذهب في تفسير التنافر بين لعبة كرة القدم وعالم الأدب، إلى اعتبار الساحرة المستديرة ذات طابع جماهيري، فهي معشوقة الطبقات الشعبية ممارسة واهتماما وتشجيعا، بينما الأدب خاص بصفوة المجتمع وطبقة النخبة. ينسى أصحاب هذه القراءة الأفلاطونية أن لعبة كرة القدم أشبه ما تكون برواية، فحضور مباراة وقراءة عمل أدبي كفيلان بإثارة المشاعر، كما أن أحداث الرواية تقسم الأشخاص تقسيما أشبه بالصراع الدائر بين فريقين على أرضية الملعب.
قد يكون ما سبق مبررا تفهم في ضوئه مواقف كتاب عرب من هذه اللعبة، أمثال توفيق الحكيم، الذي لا يخفي كرهه لكرة القدم، ومن عباراته المشهورة عن مكافآت اللاعبين قوله "انتهى عصر القلم، وبدأ عصر القدم، لقد أخذ هذا اللاعب في عام واحد ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام أخناتون". وحتى أدباء عالميون مثل خورخي لويس بورخيس عميد الأدب الأرجنتيني، الذي عد "كرة القدم من أفدح جرائم إنجلترا"، وبلغ به الكره مستوى برمجة مواعيد محاضراته الجامعية، بالتزامن مع مباريات المنتخب الأرجنتيني في بطولة كأس العالم عام 1978.
سرد قائمة بمواقف الأدباء من لعبة كرة القدم، بين العشق والكره، قد يطول بنا بقدر طول آخر خمس دقائق في مباراة تفصل فريقا عن التتويج باللقب أو الكأس. لذا سنعمد إلى البحث في قائمة الأعمال التي حولت لعبة كرة القدم إلى مادة خصبة للكتابة والإبداع والإمتاع، على غرار باقي شؤون الحياة، ما أسهم في بزوغ أو تشكيل معالم صنف أدبي، تحديدا في أمريكا اللاتينية، ما اصطلح عليه اسم "أدب كرة القدم".
حرصت أعمال روائية عديدة على تحويل كرة القدم إلى مادة للكتابة، بسرد أحداث ووقائع من قلب الساحرة المستديرة، كما فعل لوثيانو بيرنيكي الكاتب الأرجنتيني، في كتابه "أغرب الحكايات في تاريخ المونديال"، حيث نقل بلمسة كوميدية صورة أخرى عما يحدث في أروقة أكبر حدث رياضي في العالم، ما جعل الأديب إدواردو جاليانو يصفه، في استهلال الكتاب، بأنه "الجاسوس المخضرم.. والمحترف الماكر، الذي تمكن من التسلل إلى كل بطولات كأس العالم لاستقصاء أسرار، تجرأ على كشفها". يذكر أن جاليانو؛ رجل الحروف البارزة في مجال كرة القدم كان سباقا إلى هذا النمط من الأعمال، بمؤلفه "كرة القدم بين الشمس والظل" (1995).
بعيدا عن السرد التاريخي لأحداث من عوالم الكرة، اختار أدباء أن ينسجوا حبكاتهم بجعل كرة القدم مدار متنها، فأبدع الأديب ماريو بيندينتي قصة الهداف الذي يلعب في فريق على وشك الصعود إلى قسم الصفوة، الذي يتلقى رشوة وفرصة عمل نظير حرصه على إهدار كل فرص التسجيل المتاح له، واختار لها عنوان "مهاجم الجبهة اليسرى"، التي عدها كثيرون أول تدشين للكتابة في الموضوع، ضمن مجموعته "أهالي مونتفيديو" (1959).
تباعا، تلاحقت الأعمال التي سارت على النهج ذاته، فألف بيتر هاندكه، النمساوي الحائز جائزة نوبل، رواية "قلق حارس المرمى في لحظة ركلة الجزاء" (1970)، وكتب جو ماكجينيس، الصحافي والروائي الأمريكي رائعته الطويلة - أزيد من 600 صفحة - "معجزة كاستل دي سادي سانجزو" التي اختار استهلالها بكلمات إدواردو جاليانو "تعلمت في نهاية المطاف، وقد انقضت سنون، أن أقبل نفسي مثلما هي، إنني شحاذ يستجدي مشاهدة مباراة كرة قدم جيدة. أطوف العالم، يدي ممدودة، وفي الاستادات أتوسل قائلا، نقلة جميلة، كرما لمحبة الله. وحين تجري مباراة كرة قدم جيدة، أحمد الله على تلك المعجزة، ولا أبالي البتة أي فريق يخوضها ومن أي دولة".
ظهر نمط آخر من المؤلفات، يغوص في مظان الكرة، لدرجة أن عناوين مثل "الهرم المقلوب: تاريخ تكتيكات كرة القدم" (2008) للصحافي جوناثان ويلسون، أضحى بمنزلة الكتاب الأهم بالنسبة إلى الباحثين عن الخطط استعدادا للمباريات. فيما عاد الكاتب لوثيار بيرنيكي بمؤلف جديد عن تقنيات وتكتيكات اللعبة، بعنوان "لماذا تعلب كرة القدم 11 ضد 11؟". وكتب المبدع ديفيد جولدبلات "عصر كرة القدم"، مؤكدا أن كرة القدم أكثر من مجرد لعبة، حيث يزج بالقراء في متاهات ما وراء الرياضة، إنها السياسة.
في غمرة الإبداع الأدبي عن الكرة، نجد عناوين من تأليف لاعبين سابقين عن أنفسهم، فكتب إدسون أرانتيس اللاعب البرازيلي المشهور باسم بيليه، كتاب "حياتي واللعبة الحلوة.. سيرة أعظم نجم في كرة القدم". لاعب آخر اختار المنوال ذاته، والحديث هنا عن الأرجنتيني خورخي فالدانو، الذي كان في الفريق المتوج بكأس العالم عام 1986، صاحب كتاب "أحلام الكرة"، أعقبها بمجموعة قصصية بعنوان "قصص عن عالم كرة القدم". حاول الكاتب أندريا بيرلو من جانبه، أن يكون فيلسوفا في الحياة، كما هو فيلسوف في المستطيل الأخضر في مؤلفه "أنا أفكر إذن أنا ألعب" (2013)، ويبقى الكتاب واحدا من أشهر السير الذاتية في عالم كرة القدم.
عربيا، لا حضور لكرة القدم في عوالم الأدب، إلا ما ندر، وذلك عائد ربما إلى الأداء المتواضع للفرق العربية في هذه اللعبة العالمية. ويبقى الجزائري رشيد بوجدرة أول كاتب عربي أقحم كرة القدم في المتن الروائي، عام 1981، بروايته الفرنسية "الفائز بالكأس" التي ترجمت إلى العربية بقلم مرزاق بقطاش، عام 2002، بعنوان "ضربة جزاء".
يبقى الراحل إدواردو جاليانو أهم كاتب قدف بكرة القدم في بحار الأدب، ودافع عن قراره، مؤكدا أنه "أراد أن يفقد محبو القراءة خوفهم من كرة القدم، وأن يفقد محبو كرة القدم خوفهم من الكتب". ووصل به الإبداع إلى درجة تشبيه ملعب كرة بالمكان الذي تمارس فيه الطقوس، وعد حكم المباراة ديكتاتورا على أرضية الملعب لا يمكن مخالفته أو الخروج عن طوعه. وبلغ جنون بعضهم مستوى تقسيم أيام الأسبوع بقولهم "إذا كان للعمل خمسة أيام، وللتأمل يوم سادس، فإن اليوم السابع هو لكرة القدم"، فيما لم يتردد السير ولت سكوت عن اعتبار "الحياة نفسها عبارة عن لعبة كرة قدم".

الأكثر قراءة