«ذاكرة الحكائين» .. أوجاع الكتابة ومتاعبها كما يرويها ابن الصنعة
الروائي والقاص هو بطبيعته "حكاء"، يقص الحكاية على الورق، في مهنة ابتدعتها الجدات والحكواتي ذات زمان، وبات يعرف اليوم بـ"الروائي"، مستندا إلى تراكيب لغوية خاصة مكنته من حياكة قصته ببراعة لتبدو قابلة للتصديق، وأكسبها الخيال والبهارات عنصري الإبهار والدهشة.
الطبيب الروائي أمير تاج السر في كتابه "ذاكرة الحكائين"، يقفز - بلغة رشيقة - من حكاية إلى حكاية كالفراشات، فهو حكاء مخضرم، في رصيده مجموعة ثرية من الروايات التي أكسبته هذا اللقب بجدارة، وفي مقالاته التي تضمنها كتابه خفايا وأسرار من حياة الروائيين أو "الحكائين".
حكايا أمير تاج السر هي أقرب إلى حديث النفس إلى النفس، أو بمعنى أصح حديث الكاتب إلى زملائه الكتاب، روائيا وقاصا وشاعرا، مثقفا، وقارئا، انتهى من كتابه وهو يشعر بالأسى على الحكائين المبدعين، نظير عدم الاهتمام بهم، هم في الحقيقة يكتبون، أو يحكون شفاهيا للمتعة الشخصية، أو الرغبة الجامحة في إيصال أفكارهم، لكن في حكاياتهم ثراء غير معقول، على حد تعبيره.
التقاعد عن الكتابة
في كتاب من القطع المتوسط يقع في 185 صفحة، من منشورات "الربيع"، وصل إلى طبعته الخامسة، يرى الدكتور أمير تاج السر ضرورة تقاعد الكتاب والشعراء في سن معينة، هي تقريبا السن التي يتقاعد فيها موظف الحكومة الرسمي عن العطاء الوظيفي، فالكتابة بعد تلك السن لن تضيف كثيرا إلى تاريخ المبدع، وغالبا ما تشوه ذلك التاريخ، بإنتاج نصوص إما غير لائقة فنيا وإما تمس المقدسات، بعد إحساس المبدع بأنه تحرر من كل شيء.
هذا الكلام - بحسب تاج السر - بالطبع نظري، ويصعب تطبيقه عمليا، لأن الوظيفة الرسمية يمكن سحبها وإرسال شاغلها إلى بيته بلا أي جدال، فكيف تسحب الرواية أو القصة من كاتب، وكيف يمنع شاعر من صياغة قصيدة تراقصت في مخيلته، حتى لو كانت تلك القصيدة بشعة، ولا تمت إلى الحسن والجمال بصلة؟
جاء حديث تاج السر حينما برر فيليب روث - الكاتب الأمريكي القديم، صاحب أكثر من 30 رواية ناضجة، والشهرة العريضة، والـ50 عاما في سكة الكتابة - قرار اعتزاله الكتابة بأنه تعب منها، ويريد أن يتفرغ للثرثرة.
ونفى روث عن الأدب صفة الثرثرة، في حين يرى آخرون أن الأدب نفسه ضرب من ضروب الثرثرة، ثرثرة ترتدي ملابس فنية، وتملك انضباطا نوعيا ما.
القراءة المغشوشة
من يقرأ كثيرا، لا بد أن يصادف في حياته "قراء غشاشين" كما يصفهم تاج السر، الذي يقول "إنه يمر على أحد منتديات القراءة على الإنترنت لمعرفة نوع الكتب التي يفضلها القراء، وعثر على تعليق لقارئ كتبه عن رواية مترجمة لأحد الكتاب الكبار، وكانت مقروءة بشدة وذات حظ جيد من التعليقات الإيجابية، كتب يقول (رواية سخيفة، سطحية، ذات لغة ركيكة، وبلا هدف، ولا تستحق الوقت الذي أضعته فيها)، ولأن القارئ لم يذكر أي شيء يدل على قراءته الرواية، عمد إلى تتبع ذلك القارئ، فعثر على التعليق ذاته إما بالطريقة نفسها أو بتعديل قليل إلى الأسوأ، وعثر على كثيرين مثله ينتهجون النهج نفسه في التجني".
ويطلق تاج السر على ذلك "القراءة المغشوشة"، أو "وهم الثقافة" لدى البعض، والمشاركة في نقاش يدور حول كتاب معين أو فيلم سينمائي، دون الاطلاع على المادة موضوع النقاش، وذلك سهل في فضاء افتراضي رحب، والوجوه مغطاة بالأقنعة.
ويحكي الكاتب أن "مثل تلك الأوهام كانت في الماضي صعبة الارتداء، لأن النقاش الثقافي كان مباشرا، ينكشف سريعا"، ويذكر تاج السر أنه هو نفسه قام بذلك حينما كان طالبا أواخر الثمانينيات في مصر، حينما بدأ الحديث عن رواية "خريف البطريرك" لجارسيا ماركيز، ولم يكن قد قرأها، لكنه عقب بأنها رواية رائعة وسلسة، فطلب منه أحدهم أن يخبره بأكثر ما أعجبه فيها، وبالطبع لم يستطع، وترك الجلسة مرغما، ليكتشف أن الرواية لم تكن سلسة، وأن ماركيز نفسه تحدث عن صعوبتها، وأنها كانت أكثر النصوص التي أصابته بالكآبة.
ويذكر في السياق ذاته، أن شابا التقى أمير تاج السر في أسفاره، وأخبره بأنه ينتظر إصداراته بلهفة حتى يضعها في أولويات قراءاته، فسأله بتلقائية عن أكثر الكتب التي أعجبته، فرد بسرعة: "كلها"، فلم يصدق الشاب، وعمد إلى اختراع اسم لرواية لم يكتبها حقيقة، فوجده يثني عليها بشدة، ويردد أنها "من الأعمال التي لا تنسى".
لغز الأدب العربي
ذات يوم، وصلت رسالة قصيرة من ناشر أوروبي يطلب موافقة أمير تاج السر على ترجمة إحدى رواياته إلى لغته، وكلامه في رسالته كان مستفزا، حيث قال "إنه بعد الترجمة ربما تصبح للأدب العربي سمعة طيبة فيما بعد، إذا ما ترجمت أعمال جيدة في فترة متقاربة، رغم أنه الأدب الوحيد الذي تنتجه بلاد متعددة ومختلفة عن بعضها في أشياء كثيرة، لكنها تكتب باللغة نفسها، فالرواية التي يكتبها أحدهم عن الريف في مصر، ليست هي التي يكتبها آخر عن الريف في سورية أو اليمن، على الرغم من استخدام أدوات الكتابة نفسها، وقصيدة أمل دنقل التي تتحدث عن الموت، ليست هي قصيدة درويش التي تحكي الموضوع نفسه، بينما في أوروبا، ومع اختلاف الأجواء والمجتمعات وبعض العادات والتقاليد من دولة إلى أخرى، نجد اختلاف اللسان أيضا".
السمعة السيئة التي اكتسبها الأدب العربي في أوروبا تجعل مسألة انتشاره أو حتى مجرد زحفه على استحياء تبدو مستحيلة، على حد تعبير أمير، مشيرا إلى اللحظة التي حصل فيها جابرييل جارسيا ماركيز على جائزة نوبل للآداب، فالتفت الناس كلهم إلى الأدب اللاتيني الأمريكي، واكتشفوا أن هناك دنيا ثقافية مختلفة، شبعانة، ومرتوية، ومستعدة لتمد الآخرين بالشبع والارتواء، وكذلك الأمر حينما حصل الصيني مو يان على نوبل، وبالجائزة نفسها التي حصل عليها التركي أورهان باموق جر القراء إلى بلاده، ليظهر بعد ذلك كتاب أتراك كثيرون لم يقلل من شأنهم أحد، ومعروف أن الناس كلها تقرأ للكاتبة إليف شافاق "قواعد العشق الأربعون" روايتها عن جلال الدين الرومي والدرويش شمس التبريزي، والذي يقرأ تلك الرواية في نظر كثيرين لا يستحق أن يسمى قارئا.
أما حينما فاز نجيب محفوظ بتلك الجائزة، لم نجر رجل القراء وأذهانهم نحو كتابتنا، التي لا تقل عن أي كتابة أخرى. الجائزة جاءت وانتهى وقتها، ونسيها الناس، ولم تعد تذكر إلا حين يذكر أمر يخص الراحل الكبير، ولا جديد.
من ضرورات الكتابة
كتب أمير تاج السر عن صنعة كتابة الرواية، عن الحقيقة والخيال في هذه الصنعة، والعلاقة بين الناشر والوكيل الأدبي والمؤلف، طقوس القراءة، إيحاءات الأمكنة، وتكرار ورود مدن بعينها في الروايات، وكذلك المحرر الأدبي، المهنة المفقودة في العالم العربي.
ففي زيارة له لإيطاليا، التقى كاتبا واسع الانتشار إلى حد ما، وأخبره بأن كثيرا من المشاهد الدرامية الناجحة في أعماله جاءت كتابتها بإيعاز من محرره، الذي يعرف كثيرا من الأسرار، ويوحي إليه بأفكار ناجحة، ومنها مشاهد لم تكن تخطر بباله أثناء الكتابة، وحين كتبها في النسخ المعدلة قبل النشر، بات مستغربا كيف أنه أغفلها حقيقة.
فالمحرر الأدبي يشارك الكاتب تربية النص وتجميله، وتحسين مستواه حتى يخرج إلى القراء في أفضل حالاته، متسائلا: ما المؤهلات المطلوبة للمحرر الأدبي؟ فيجيب أمير تاج السر بأنه لا مؤهلات كبرى حقيقة، مثلما أن الكاتب نفسه غير مطالب بأن يكون من حملة المؤهلات، هي موهبة يحملها البعض، وهي ذكاء وقدرة جينية للنظر عميقا في النصوص والإضافة إليها أو الحذف منها، وينحازون إلى ما يرونه مناسبا بلا تذوق شخصي، مشيرا إلى أن العرب يملكون هذه الوظيفة بطريقة أخرى، حينما يعطي الكاتب النص أحد أصدقائه ليعطي رأيه فيه، وهناك من يردد "إن زوجته هي قارئته الأولى".