تحولات الطلب تضغط على مكابح أسعار الغذاء .. تشبع مرتفع وأنظمة أكثر تنوعا

تحولات الطلب تضغط على مكابح أسعار الغذاء .. تشبع مرتفع وأنظمة أكثر تنوعا

في الأشهر الماضية ارتفعت أسعار المواد الغذائية إلى أعلى مستوياتها منذ عقود في جميع أنحاء العالم تقريبا، وفي نيسان (أبريل) تحديدا كانت الأسعار عند ذروتها، وعلى الرغم من أن الأسعار هدأت حدتها بعض الشيء في الأسابيع الأخيرة، إلا أن هناك مخاطر متعددة وكبيرة تهدد هذا الاتجاه الهبوطي في الأسعار.
لعبت مجموعة من العوامل الاستثنائية دورا في تراجع الأسعار، فالإنتاج العالمي لعدد كبير ومهم من المنتجات الزراعية خلال الموسم الحالي كان أكبر من المتوقع، والاتفاقية التي توسطت فيها الأمم المتحدة وسمحت للحبوب الأوكرانية بالوصول إلى السوق العالمية أسهمت أيضا في انخفاض نسبي في الأسعار.
وبعد زيادة متوقعة بنسبة 18 في المائة في أسعار المواد الغذائية العام الجاري، من المرجح أن يتراجع مؤشر أسعار الغذاء التابع للبنك الدولي بنسبة 6 في المائة العام المقبل على أن يستقر في العام الذي يليه، ومع هذا لا يزال مؤشر أسعار الغذاء التابع للأمم المتحدة يؤكد أن أسعار المواد الغذائية أعلى بنسبة 25 في المائة مما كانت عليه قبل جائحة كورونا في أواخر عام 2019 وأوائل عام 2020.
كما أن توقعات الأسعار معرضة لمخاطر متعددة، فالبيئة الجيو – سياسية الدولية مضطربة للغاية، وعدم اليقين لا يزال مسيطرا على الاقتصاد الدولي، وكبح جماح التضخم لا يزال مشكلة كبيرة خارج نطاق السيطرة في كثير من الاقتصادات المتقدمة والناشئة على حد سواء، وآفاق النمو العالمي متدهورة، والأزمة الأوكرانية لا تبدو بلا أفق حقيقي للحل، وتكاليف المدخلات الزراعية في ارتفاع.
ويمكن الجزم بأن ارتفاع أسعار الغذاء أحد أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي منذ بعض الوقت، فلعقود طويلة من الزمان أسهمت العولمة الاقتصادية والتجارية في زيادة إمكانية التنوع الغذائي وخفضت تكلفة الغذاء نسبيا، لكن جائحة كورونا والقيود التي فرضت على التجارة الدولية ثم الحرب الروسية - الأوكرانية وما ترافق معها من اضطرابات عالمية في سلاسل التوريد، أدت إلى اضطرابات سعرية حادة انعكست على الجميع تقريبا.
مع هذا يرى الدكتور جوزيف توماس الخبير في الأمم المتحدة، أن تباطؤ النمو العالمي، والمخاوف من حدوث ركود في الاقتصاد الأمريكي، وإعلان وزير المالية البريطاني دخول اقتصاد المملكة المتحدة مرحلة الركود فعليا، واحتمال تعرض عدد من الاقتصادات الدولية الفاعلة لموجات متفاوتة الحدة من الركود، سيكون له تأثير سلبي في دخول الأسر، ولهذا انعكاسات غير إيجابية على الطلب على الغذاء وأسعاره.
وقال لـ"الاقتصادية" إنه "لا يمكن إغفال الآثار السلبية لارتفاع قيمة العملة الأمريكية في مواجهة معظم العملات على أسعار الغذاء في جميع الأسواق خاصة النامية والناشئة، فالقدرة الشرائية للأسر تتأكل خاصة في البلدان الفقيرة، فإذا أضفنا لذلك التضخم وأخذنا في الحسبان أن السكان في البلدان النامية ينفقون الجزء الأكبر من دخولهم على الغذاء حيث تتجاوز تلك النسبة أحيانا 50 في المائة يمكن أن نتفهم حجم المشكلة في تلك المجتمعات".
من جانبه، يرى الدكتور إل.دبليو اليستر أستاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة لندن، أن الارتفاعات الراهنة في أسعار المواد الغذائية ستنخفض حدتها على الأمد الطويل، نتيجة التحولات غير المتكافئة في الطلب على الغذاء عبر الأسواق العالمية.
وذكر لـ"الاقتصادية" أنه "في حين أن الزيادة السكانية في العالم ستدعم الطلب العالمي على الغذاء، فإن تطوير الأنماط الغذائية سيختلف عبر المناطق، ففي البلدان النامية ولا سيما القارة الآسيوية من المتوقع أن يوفر النمو السكاني القوي والتوسع الحضري السريع وزيادة ثراء المستهلكين دفعة كبيرة لأنظمة غذائية أكثر تنوعا مع زيادة الطلب على البروتين الحيواني".
وأضاف "من ناحية أخرى من المتوقع أن تسجل الاقتصادات المتقدمة نموا متواضعا في الطلب بسبب التشبع المرتفع نسبيا وتوقعات النمو السكاني المحدود، كما ستتأثر التغييرات في الطلب على الغذاء في الأسواق ذات الدخل المرتفع بالتحول نحو النظم الغذائية القائمة على النباتات، إضافة إلى التفضيلات المتزايدة للأغذية الخالية من الغلوتين والدهن والسكر، في الوقت ذاته سيواصل السكان في البلدان الأقل نمو الاعتماد إلى حد كبير على المواد الغذائية الأساسية".
ويعزز هذا النمط من التفكير أهمية وضرورة مواصلة الدفاع عن العولمة وحرية التجارة كوسيلة رئيسة لخفض أسعار السلع الغذائية، فالطعام والشراب في الوقت الحالي باتا كعديد من السلع المصنعة مثل السيارات على سبيل المثال تشتمل على مكونات من جميع أنحاء العالم.
وفي الوقت الراهن ووفقا لبيانات منظمة التجارة العالمية، فإن ربع الصادرات الغذائية العالمية تحتوي على مكون أجنبي، وقد استوردت الولايات المتحدة أكثر من 18 في المائة من قيمة المواد الغذائية والمشروبات في 2020 مقابل 13.2 في المائة عام 2008.
وعلى الصعيد العالمي ارتفعت حصة استهلاك القمح الذي يتم الحصول عليه من الخارج إلى 25 في المائة عام 2019 من 17 في المائة عام 1995، ووفقا لتقرير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة الفاو، كان من المرجح أن تشكل دولة ما رابطا مباشرا لتجارة المواد الغذائية والزراعية مع دولة أخرى عام 2019 بنسبة 50 في المائة أكثر مما كانت عليه في عام 1995.
من جانب آخر، يرى بعض الخبراء أن الاضطرابات الراهنة في سوق الغذاء العالمي تعود إلى أن السيناريوهات السابقة بشأن الأسباب المؤدية إلى أزمة الغذاء الدولي، كانت مبنية على أساس أن دوافع اختلال العرض والطلب تتمركز حول الطقس والعوامل الأخرى المتعلقة بالعرض، لكن الأزمة الأخيرة لم تكن أسبابها ضمن تلك السيناريوهات، فجائحة كورونا وحرب بهذا الحجم الهائل في أوروبا لم تكن هناك استعدادات دولية كافية لهما، وكان الاستثناء الوحيد هو الصين التي زادت بشكل كبير من الاحتياطي الاستراتيجي للمواد الغذائية بأكثر من 70 في المائة منذ عام 2008، لكن عديدا من الأسواق الأخرى في العالم لم تكن على الدرجة ذاتها من الاستعداد.
ويدفع هذا بالكساندرا ليويما الباحثة الاقتصادية في قضايا الغذاء إلى الدعوة إلى ضرورة تعزيز القدرة الإنتاجية في البلدان النامية استجابة للطلب المتزايد على الغذاء.
وقالت لـ"الاقتصادية" ليويما إن "الاقتصادات النامية في آسيا والمحيط الهادئ وأمريكا اللاتينية هي بالفعل موطن لحصة كبيرة من إنتاج الأغذية الزراعية العالمية، ولذلك يقع على عاتق حكومات تلك البلدان والقطاع الخاص المحلي والشركات الدولية تكثيف إنتاج الغذاء ودعم القطاع الزراعي فيها بتقنيات الزراعة المتقدمة، وتطوير التكامل الرأسي لصناعة الأغذية الزراعية".
وأوضحت أن ذلك أسهم في أن تشهد الاقتصادات النامية عبر آسيا والمحيط الهادئ وأمريكا اللاتينية بما في ذلك البرازيل والهند والأرجنتين، بعض أكبر الزيادات في إنتاج الحبوب خلال الفترة من 2016 إلى 2021.
وأشارت إلى أن "أهمية استدامة الإنتاج الغذائي قضية محورية في العقود المقبلة، خاصة في البلدان ذات الدخل المرتفع، كما يجب ألا ينسينا التركيز على توفير الغذاء، أهمية قضية جودة الأغذية خاصة مع تنامي الوعي لدى الطبقات المتوسطة على المستوى الدولي بهذا الجانب المهم".
باختصار التحديات التي تواجه الوضع الغذائي العالمي الراهن تتطلب من المجتمع الدولي العمل على محورين رئيسين، الأول يركز على ضرورة زيادة الإنتاج الزراعي وتحسين نوعيته، ولا يوجد خلاف بشأن تلك القضية وأهميتها.
أما الجانب الآخر الذي لا يزال يواجه معارضة من قبل البعض فيتعلق بأهمية العولمة والتجارة الحرة كعناصر أساسية وضرورية للحفاظ على استقرار سوق الغذاء العالمي، وضمان انخفاض وتراجع التكلفة والأسعار، وربما يعد هذا الجانب شديد الأهمية بالنسبة إلى دول الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث أثبتت الوقائع منذ الحرب الروسية - الأوكرانية وقبلها في جائحة كورونا أن حرية التجارة في المواد الغذائية تصب في مصلحة بلدان المنطقة تماما كما تفعل زيادة الإنتاج المحلي من المواد الغذائية.

الأكثر قراءة