سنغافورة الفائز الأبرز من طلاق أمريكا والصين
عندما تتحول المحادثات في سنغافورة إلى الأوضاع الجيوسياسية المتوترة، هناك بعض ممن لا يستطيعون مقاومة الإشارة إلى الاتجاه الصعودي للتوتر. بالطبع لا أحد يريد حربا باردة جديدة، كما يؤكد أحد كبار المسؤولين السابقين. لكن إذا كان لا مفر من هذا الأمر، وبدأت الكتل تتشكل بشكل أكثر تصلبا ومواجهة حول الانفصال الأمريكي - الصيني، فقد تكون سنغافورة في وضع أفضل من أي جهة للعب على كلا الجانبين.
لكن مع استعداد الشركات والمستثمرين للتموضع استعدادا لما يمكن أن يكون عاما صعبا في 2023، لم يحل سوى قليل منهم خلال الأيام العشرة الماضية مسألة إذا ما كانت محادثات 14 تشرين الثاني (نوفمبر) بين جو بايدن وشي جين بينج قد حددت نوعا من الأرضية لتدهور العلاقات، أو إذا ما كانت العلاقات ستستمر في التراجع بشكل خطير كما توقع كثيرون. إن قاموس الحرب الباردة يملأ بسهولة الفجوات التي أحدثها كل هذا الغموض.
وعلى الرغم من ذلك، فإن ما يكمن وراء هذا الترميز المشؤوم هو فارق بسيط أكثر إثارة للاهتمام، خاص بسنغافورة. حتى بدون مخاطر الحرب الباردة الجديدة، فإن المخاطر المرتبطة بتفكيك العولمة والانفصال تستحق الاهتمام الجاد من الجميع. ويبدو أن سنغافورة، ربما قبل أي جهة أخرى، قد قبلت ضمنيا كلا الأمرين على أنهما حتميان.
هناك كثير من المجالات التي تظهر فيها بالفعل علامات هذا القبول. الأول، وفقا لأشخاص مقربين من الصندوقين السياديين في سنغافورة وغيرهم من المستثمرين المؤسسيين الكبار، هو الاعتراف بأن معايير الاستثمار قد تغيرت بشكل كبير. ويسر أحد أولئك الأشخاص بأن المسلمات النسبية لعصر العولمة آخذة في التآكل بسرعة. ويجب الآن مراقبة كل شيء من خلال عدسة جيوسياسية وافتراض أن المنطق الاقتصادي الخالص، في عالم تضطر فيه الشركات إلى التكهن بالتطورات الجيوسياسية أو التحوط ضدها، ربما لم تعد له أهمية قصوى في اتخاذ قرارات الشركات.
واستطرادا، قال أحد كبار مديري الصناديق، "ينبغي الآن الحكم على آفاق الاستثمار الخاصة بالشركات الفردية من خلال إبحارها وتنقلها في المجالات المتميزة. الشركات التي كان عليها في يوم من الأيام أن تبرهن على أن لديها آفاق نمو عالمي واسعة لإثبات حجتها الاستثمارية، يمكنها الآن نظريا الوصول إلى النقطة نفسها من خلال إظهار قدرتها على النمو إما في المجال الصيني وإما في منطقة غربية".
ثانيا، موضوع تفكيك العولمة، كما يقول رؤساء البنوك الاستثمارية في سنغافورة، يترك بصمته أيضا على عمليات الاندماج والاستحواذ. موقع سنغافورة القوي بشكل متزايد في مجال إبرام الصفقات الآسيوية أعطى قطاع الخدمات المالية لديها رؤية أوضح لكيفية تفكير الشركات في طريقها إلى عالم أكثر انفصالا. توقع أحد المصرفيين أن إبرام الصفقات الإقليمية سيركز على بناء المرونة في عالم منفصل. وستتلاشى العولمة كمحرك مركزي لمصلحة النمو داخل الخطوط الجديدة التي ترسمها التوترات بين الولايات المتحدة والصين، لكن ليس بالضرورة عبرها.
هناك إشارة ثالثة وصفها المحامون بأنها تدفق رأس المال الصيني ورغبة شركات البر الرئيسي في ترسيخ نفسها كيانات دولية مقرها سنغافورة.
منذ بداية 2020 حتى نهاية 2021، ارتفع عدد المكاتب العائلية في سنغافورة من 400 إلى 700. يقول المحامون الذين يتعاملون مع هذا الطوفان "إن أكثر من نصف هؤلاء من الصين ويتوقعون أن يزيد العدد على 1500 بحلول نهاية هذا العام، وسط تراكم ضخم من الطلبات غير المعالجة".
في الوقت نفسه، تنسب الشركات الصينية إلى سنغافورة دورا مركزيا في استعداداتها لبيئة أعمال أكثر استقطابا، مع وصول أقل جاهزية إلى رأس المال العالمي. وبالفعل هناك عدد متزايد من أولئك الذين شعروا بألم الانفصال، أو الذين يمكنهم تصور ذلك بسهولة، بدأوا عمليات لإعادة الاستقرار في سنغافورة. يقول المحامون "إن بعضهم يفعل ذلك على وجه التحديد، لأن المسائل الجيوسياسية أحبطت استراتيجياتهم الدولية". يشير محامو شركات التكنولوجيا إلى أنها كانت أول من اتخذ هذه الخطوة. القطاعات الأخرى ستلحق بها بالتأكيد.
من الواضح أن بعض التحركات تسارعت بسبب الرغبة في الهرب من سياسات "صفر كوفيد" الصينية، التقييدية. بالنسبة إلى آخرين قد يتعلق الأمر ببساطة بحماية ثروة الأسر من حالة عدم اليقين الموجودة في الصين. لكن كلا من المكاتب العائلية وعمليات إعادة التوطين، كما يقول المستشارون، هي أعراض للذعر المتزايد من أن الانفصال أصبح الآن حقيقيا، مع وجود خيارات قليلة أفضل من سنغافورة. قال أحد المحامين "إن الرغبة في الانتقال من الصين إلى سنغافورة ربما كانت موجودة منذ بعض الوقت، لكن لم يتم الشعور بالحاجة إلى تنفيذها حتى الآن، وقد تسبب الحديث عن الانفصال في حدوث هذا التغيير".
ربما تكون سنغافورة، عبر الحظ والاجتهاد، قد جعلت من نفسها المكان المناسب في الوقت الخطأ بالنسبة إلى العالم بأسره.