"السدرة".. إرث الأحساء الثقافي مع شيء من الواقعية السحرية
نهرب من الواقع إلى الخيال من خلال القصص والروايات، ملاذا آمنا يأخذنا من عمق الحياة وتجاربها القاسية، إلى عالم نبحث عنه، يشبهنا في بعض تفاصيله، نرتمي بين أوراقه المبعثرة وأحداثه الضائعة علنا نجد ما نبحث عنه أو نريده. لكن في رواية "السدرة" للروائية أسماء بوخمسين، يمتزج الواقع بالخيال، قصة فيها من الحقيقة الكثير، تروي خيالات الرائية حينا، ومشاهداتها الحسية والواقعية أحيانا كثيرة. "السدرة" رواية غير نمطية، تأخذنا إلى عالم من التساؤلات عن شخصية منصور بطل الرواية وما يعيشه من تفاصيل تبلور شخصيته وتحوله من فتى بسيط إلى رجل متسلط.
أما السدرة ففي اللغة العربية تعني الشجرة التي تمد جذورها في الأرض دون أن تؤذي الشجيرات حولها، وتنشر أذرعها الوارفة حامية الرؤوس المتعبة من الأشعة الحارقة، والسدرة ذات الخضرة الدائمة بثمرها المنهمر من أغصانها المثقلة به، فهي الأم السخية المتفضلة بلا منة ولا منقصة، من هنا أطلقت أسماء بوخمسين اسم "السدرة" على باكورة أعمالها الروائية الصادرة عن مركز الأدب العربي في الدمام. هذا وقد سبق أن كتبت بوخمسين في أدب الأطفال، 19 قصة ضمن برامج تعليم القراءة بالتعاون مع دار التركي.
حكايات
حوت "السدرة" حكايات التقطتها أسماء بوخمسين من جلسات وأمسيات الأمهات والخالات التي بقيت حية في ذاكرتها، وحرصت على تدوينها كما سمعتها بحرفيتها، وتدور أحداثها في واحة الأحساء في بداية القرن الـ20، خلال الفترة الممتدة قبيل الحرب العالمية الثانية إلى ما بعد العدوان الثلاثي على مصر، يتنقل أبطالها بين الهفوف والهند والأهوار في العراق، وتصور لنا الحياة الاجتماعية والثقافية في تلك الفترة، في ظل شيء من الواقعية السحرية في محاولة للوصول إلى عقل وقلب القارئ عبر بساطة وسلاسة السرد، ونسيجها الحسي مع الواقع الذي غلب على تلك الفترة من الزمن. تدور الأحداث حول شخصية منصور الهنيدي، ابن عبد الرزاق الهنيدي أحد أثرياء "الديرة"، ونموه الروحي والنفسي وتشكل وعيه خلال الأعوام التكوينية إلى مرحلة النضج والرشد، انتهاء بتغيره الدراماتيكي من شخص مسالم إلى متسلط.
منصور طفل فقد والدته "أم الخير" بعد ولادته بدقائق، وعهد أبوه برضاعته وتربيته وتعليمه إلى عدد من النساء، اللواتي لعبن أدوارا رئيسة في الرواية، وتتجلى ظروف العزلة والمعاناة القاسية التي خبرها الطفل اليتيم بعيدا عن والده المنشغل بتجارته وزوجته الثانية.
الحمل الثقيل
في الفصل الأول "الحمل الثقيل" تنقلنا أسماء إلى قصة عبد الرزاق الهنيدي وهو يجتاز الأزقة الضيقة في طريقه إلى "فريج اللباني"، حيث تقيم الداية أم سليمان التي خرج عن يديها منصور من رحم أمه إلى الوجود قبل موتها. ترسم بلغة الحرف وصفا دقيقا للطرق المغبرة والمتربة فتشعر كأنك ترى الصورة وأنت تقرأها، يترك منصور لدى الداية قبل أن يأتي ليأخذه بعد أن تنبت أسنانه اللبنية، وتفطمه المرضعة أم حميدان لفطمها ابنها نويصر بسبب حملها.
حوت الرواية بعض الأهازيج، وحرصت الروائية أسماء بوخمسين على تدوينها كما سمعتها من الأفواه، فهي جزء من تراث المنطقة، صاغها العقل الجماعي في فترات زمنية طويلة، واقتبست بعضا من الغناء الشعبي المعروف "بالنهمة"، وأبيات من أشعار "ديك الجن"، وهي رواية تحفظ الإرث الثقافي والاجتماعي للمنطقة في ظل شيء من الواقعية السحرية. تتحرك شخصيات الرواية في فضاء مكان وزمان محددين، وتتصارع فيها نوازع الخير والشر، ورسمت الشخصيات بطريقة منطقية لإقناع القارئ، وفيها ثورة على العادات والأعراف عاشها منصور من خلال تبدل شخصيته باختلاف مراحل حياته.
أم سليمان الداية
في الفصل الثاني نتعرف على "أم سليمان الداية"، المرأة المعدمة متعددة الخدمات والمهمات، "هي جزء من الفريج، كما المزراب الذي يتدفق منه ماء المطر، لا نشعر بأهميته أو وجوده إلا عند تعطله". يعود سليمان المكلف بإحضار منصور من بيت المرضعة أم حميدان. كان منصور شاحبا ومغبرا، ويرتدي ثوبا جديدا، "نسي أن يغسل وجهه المتسخ، ويزيل المخاط الجاف المخضر من جانبي أنفه. لم تدم إقامة منصور في بيت أبيه سوى شهرين، فلم يكد يستقر ويشعر بالطمأنينة لوجوده مع أبيه، حتى ينتزع من المنزل إلى منزل آخر، إلى رعاية سعدية العرجي، بعد تذمر زوجة أبيه من مشقة العناية به، ثم لانشغالها بالجنين في رحمها.
سعيدة العرجي
سعدت سعيدة العرجي الأرملة الوحيدة بمنصور لأنها رأت فيه مصدرا للرزق يقيها الفقر، ولم يجد فيها منصور "الأم الرؤوم"، كان مجرد سبب لتسلم الأجر الأسبوعي من أبيه، فكانت سعيدة نادرا ما تتحدث إليه، أو حتى تنظر إليه، ورفضت أن يكون البديل لطفل لم يضمه رحمها. وجدت في دفعه للذهاب إلى "المطوعة" كل صباح فرصة للتخلص منه لبعض الوقت إلى أن عاد للعيش في المنزل الكبير بعد ختمه القرآن وهو في العاشرة.
منصور والقط الأسود
عاش منصور طيلة أعوام عمره من الطفولة المبكرة إلى نهاية الرواية وحيدا، بلا أصدقاء لا صديق ولا رفيق له سوى قط أسود له عينان بلونين مختلفين، وسدرة في بيت أبيه، كانت له الأم الحنون التي تحنو عليه. لم يكن القط مرافقا فقط بل حارسا يتولى حمايته ويصد عنه الأذى ويتحدث إليه. لا أحد يعرف متى ومن أين جاء القط الأسود ومتى بدأت رفقته لمنصور. وكان عبد الرازق يمتعض من مرافقة ابنه للقط الأسود ويتعوذ بالشيطان كلما رآه، فتسارع أم سليمان لطمأنته، بأن هذا القط يرافق منصور دائما، وهو أنيس، حتى الفروخ أو الفئران لا تخافه. لكن القط الوديع يتحول إلى قط شرس عندما يحدق أي خطر بمنصور. يحميه من الأطفال المتنمرين عندما يتكالبون عليه، ويصد عنه البحارة خلال رحلته البحرية إلى الهند عندما يهمون ليلا بفعل الفاحشة به في جوف المركب.
تطور شخصية منصور
يموت عبد الرازق، ويتحول منصور من يتيم تائه إلى راشد متسلط، ولم يكن تغير شخصيته مفاجئا، فقد بدأ تدريجيا بعد وفاة أبيه، وكان من إحدى علامات تغيره توقفه عن زم شفتيه. فهو يزمهما عندما يشعر بالخوف أو يرتبك أو "لا يجد تفسيرا لما يحدث أمامه". يغير هذا التفصيل المتمثل في تصرف منصور مجرى الرواية، ويضعنا أمام شخصية جديدة، يخافه القط الأسود، وتحني السدرة رأسها أمامه، إنه منصور تحول إلى رجل متسلط، ذهب إلى الهند وتعرف على فتاة وتزوجها وفور عودته إلى دياره أمر زوجة أبيه وابنه من زوجته الأولى وابنة أخيه بمغادرة البيت الكبير، لأنه سينتقل للعيش فيه مع زوجته الهندية. لم يعد منصور بحاجة لمن يحنو عليه كما كانت تفعل السدرة، ولم يعد بحاجة لمن يدافع عنه كما فعل القط الأسود، لقد أصبح منصورا آخر، كائن قاس ومستبد.
الثقافة الشعبية
نقلت رواية "السدرة" كثيرا من الحقائق عن حياة أهل الأحساء، وجانبا من شكل ملابسهم ومأكلهم، وتجارتهم، وزراعتهم، وسردت التفاصيل الدقيقة عن الحياة في ذلك الوقت كأن الكاتبة عايشتها معهم، خاصة ترديد الأشعار الشعبية، والقصص، والأساطير الخيالية الواردة في المناسبات المختلفة. كما أسهبت بوخمسين في تفصيل العادات والتقاليد في مناسبات الزواج، الولادة، الموت، الأرضاع، تحفيظ القرآن والحياة الاجتماعية المتمثلة في التعاون والمساعدات بين أهل الفريق الواحد، كذلك أساليب التجارة والتعامل مع الغريب، ومدى معرفتهم بعلاج المرض في ذلك الوقت.
في الختام "السدرة" رواية تجعلنا نتنبه لكل ما هو جميل من حولنا، من أرض نمشي عليها وسماء ننظر إليها، وشجرة تحنو فوق رؤوسنا، وحياة مليئة بالجمال إذا أمعنا النظر في أعماقها.