فخ التضليل الإعلامي لا يستثني أحدا من شباكه
منذ أيامه الأولى تبين أنه عام يحمل بدايات جديدة، فالقاهرة بعد تأميم قناة السويس تستعد إلى إكمال السد العالي، وتونس تستقبل عهد الجمهورية الجديدة، فيما تشرع المغرب في إنشاء طريق الوحدة، في الوقت الذي يتأسس فيه نادي الهلال السعودي الذي سيتزعم قارته كرويا بعد عدة عقود.
في تلك الأجواء من 1957، لم يجد الإعلامي الشهير ريتشارد ديمبلي حرجا، من إعداد تقرير إذاعي في "بي بي سي"، يعلن فيه حصادا وفيرا من محصول المعكرونة سباغيتي من أشجار في سويسرا، وهو ما استغرب له الكثير، إذ إن "المعكرونة" لا تزرع وإنما تصنع، وهذا ما دفع مستمعون إلى الاتصال بديمبلي وسؤاله عن كيفية زراعة أشجار السباغيتي فما كان منه سوى نصحهم بغرس بعض قطع السباغيتي في علبة تحتوي على شرائح طماطم وانتظار النتيجة.
وإذا كان ديمبلي أوضح في اليوم التالي، أن ما قاله ليس أكثر من "كذبة أبريل" وأنه كان يمازح الجمهور فقط، فهناك صحف ومؤسسات إعلامية نشرت أكاذيب لا علاقة لها بأبريل، وبعض من تلك المؤسسات تعرضت للخداع من قبل محرريها، وبعضها الآخر كان هو من أوجد التوجهات التحريرية، ولعل الحدث الأبرز في القرن الـ20، كان من خلال كولن باول، وزير الخارجية الأسبق حين وقف في الخامس من شباط (فبراير) 2003، أمام مجلس الأمن ووفود من معظم دول العالم ووكالات الأنباء الدولية، ليزعم وجود أسلحة دمار شامل في العراق، وهو ما ثبت عدم صحته لاحقا، لكن بعد أن تورطت الصحف الغربية بداية من "الواشنطن بوست" حتى "نيويورك تايمز"، في نشر تلك الأكاذيب.
لم يقتصر الأمر على التضليل السياسي فقط، فصحيفة مثل "نيويورك بوست"، التي تعد ضمن أكثر عشر صحف توزيعا في الولايات المتحدة، وقعت في فخ من نوع آخر، بعد أن نشرت تقريرا في 2015 تحت عنوان "زوجان يعيشان على طاقة الكون بدلا من الغذاء"، وهو ما أثار الصحف المنافسة التي تكالبت على الزوجين لمعرفة كيف يمكن لإنسان العيش دون ماء، وهل هناك نظام غذائي يمكن الاعتماد عليه بدلا من الطعام التقليدي، لكن بعد تحري الصحافيين عن الزوجين ومراقبة تاريخهما السابق، اتضحا أنهما كاذبان وأوقعوا "نيويورك بوست" وغيرها في فخ التضليل.
يقول رئيس الوزراء البريطاني الأشهر، ونستون تشرشل، "إن الكذبة تصل إلى منتصف الطريق حول العالم قبل أن تتاح للحقيقة فرصة ارتداء حذائها"، ورغم ثورة الاتصالات التي حدثت في الأعوام الأخيرة وتوافر أدوات كثيرة للتحقق قبل النشر، إلا أن ذلك لم يمنع صحيفة عريقة مثل "الجارديان" البريطانية من الوقوع في فخ التضليل، إذ اعترفت في 2016 أن محررها في القاهرة "فبرك" 57 تقريرا تم نشره في الفترة ما بين 2009- 2016، ما كاد يؤدي إلى أزمة دبلوماسية بين مصر وإنجلترا، كما أوضحت أنها حذفت كل ما ثبت كذبه بعد اعتراف مراسلها بعدم وجود أي مصادر لما كتبه خلال السبعة أعوام.
من الصحف إلى القنوات، لم تختلف الصورة كثيرا، وإن كان وقوع تلفزيون رسمي في فخ التضليل يعني أن المصيبة أكبر لما يفرضه من قيود صارمة على ضيوفه، لكن ذلك ما حدث حين استضافت قناة "صوت الشعب" التابعة للتلفزيون المصري، أحد الأشخاص أصحاب التعليم المتوسط، وقدمته كخبير في التنمية البشرية ونظم المعلومات، وملم بحروب الجيل الرابع، وبعد تحري بعض المنصات الإخبارية حول الشخص المذكور، اعترف الشخص إنه لم يحصل على أي شهادة علمية موثقة ومعظم أحاديثه ناتجه فقط عن بعض القراءات والكتب التي طالعها، والقصة نفسها تكررت في جائحة كورونا حيث استضافت بعض المنصات الإخبارية، مهتمين بالصحة وليسوا أطباء أو خبراء في مجال الفيروسات.
نيك نيومان، الخبير الإنجليزي في الإعلام التقني، والصحافي البارز، يلقي الضوء على جزء من المشكلة، إذ يوضح في دراسة نشرتها أكاديمية "بي بي سي"، أن الشباب والمراهقين لا يجدون مشكلة حين يريدون التأكد من مصداقية خبر ما، لأنهم وقتها يذهبون إلى وسائل الإعلام الموثوقة كالوكالات العالمية والصحف الورقية والمواقع الرصينة، لكن المشكلة أن ذلك يحدث في حالات محددة، كالأخبار الحاسمة والأحداث الطارئة - كالحروب أو الأوبئة مثلا-، أما ما دون ذلك فهم يتعرضون للأخبار التي قد تكون كاذبة طوال الوقت، والسبب في ذلك بحسب نيومان، أن وسائل الإعلام التقليدية لا تتفاعل مع الشباب بالشكل المطلوب عكس منصات أخرى توجد في تويتر وسناب شات وتيك توك وما إلى ذلك، لا تمتلك موثوقية الأدوات ومهنية نشر المعلومة، لكنها مشوقة ومتفاعلة طوال الوقت مع جيل الشباب.
في دراسة أجراها معهد رويترز في 2020، أوضح فيها أن السبب الرئيس في عدم التحري الدقيق عن هوية المتحدثين، هو حاجة وسائل الإعلام وتكالبها على "السبق الصحافي"، لكن حتى ذلك السبب لم يعد مبررا كافيا في ظل أدوات التحقق التي باتت لا تستغرق وقتا طويلا، والسؤال الآن، والسؤال هنا، ماذا كان ينقص "سي إن بي سي" الأمريكية حتى لا تقع في الفخ، بعد أن استضافت أخيرا شابين ادعيا أنهما مهندسان فصلهما إيلون ماسك من تويتر بعد الاستحواذ عليها، وهو ما ثبت عدم صحته لاحقا واضطرت القناة العالمية إلى حذف المقابلة والاعتذار؟!