"ليلة مجنونة".. رحلة البحث عن الأنا

"ليلة مجنونة".. رحلة البحث عن الأنا
"ليلة مجنونة".. رحلة البحث عن الأنا
الكاتب الإماراتي الدكتور محمد حمدان بن جرش.
"ليلة مجنونة".. رحلة البحث عن الأنا
الكاتب د. محمد بن جرش أثناء محاضرة له في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات.

"الضغوط النفسية تغير الشخص من حالة المرح إلى كتلة من الصمت".. بهذه الكلمات يعبر فرويد عن مدى تأثير الضغوط النفسية والرواسب التي تتركها تفاصيلنا اليومية في تركيبتنا، وكيف يمكن أن نتحول معها إلى أنصاف أشخاص، لنعيش نصف حياة، ونختبئ خلف عقد نفسية مميتة تودي بنا إلى الهاوية من دون أن نشعر كيف ومتى.
في روايته الجديدة "ليلة مجنونة" الصادرة عن دار سويد للنشر والتوزيع، يذهب الكاتب الإماراتي الدكتور محمد بن جرش بعيدا، حيث يبحث في خفايا المشكلات النفسية وخيالاتها المنعكسة، ومدى تأثيرها في سلوكياتنا اليومية ونمط تفكيرنا وطريقة مقاربتنا للمواقف التي نتعرض لها. شخصيات "ليلة مجنونة" تحمل أعباء نفسية وأمراضا اجتماعية تحاكي فوضى معاصرة نعيشها في الواقع الراهن وتعكس تساؤلات مختلفة، تدخلنا في حيرة قاتلة، إذا كنا جميعنا مرضى نفسيين فمن يعالج من؟ وكم من طبيب يجب أن يعالج قبل أن يمتهن العلاج؟
رواية "ليلة مجنونة" التي نسجها الدكتور ابن جرش بشغف المحترف، حاملا على كاهله أدوات الحرفة بحرص ليقدم مخزونه المعرفي على هيئة رواية، هي غمر من السنابل الناضجة المثلى لتقديم وجبة متكاملة العناصر في سرد يأخذنا إلى مذاق سينما منير راضي في فيلم "أيام الغضب" 1989، ونتنشق عبق فيلم "دارايونت الخلاص من شاوشانك" 1994 ونغرف من دراما رشا شربتجي للعمل الصادم "غزلان في غابة الذئاب" 2006.

حبكة الحب الفاشل
تجسد رواية "ليلة مجنونة" حالة سينمائية قائمة بذاتها، وتسمح للمشاهد أن يتنبأ بالأحداث، ويصورها في مخيلته على شكل فيلم سينمائي يستمتع برؤيته لا قراءته. وتعيش مع منصور البطل الرئيس للرواية تفاصيل حبه الفاشل، وضيق أحواله المادية، وتأثيرات المشكلات في نفسيته، وصولا إلى تحوله إلى شخصية بوليسية، إذا صح التعبير، ونجاحه في حل لغز القبو والنجاة من الموت.
تدور قصة الرواية حول شخصية منصور، الشاب الذي اختار الطب النفسي مجالا للدراسة، رغم رفض أهله أصر على خياره، درس ونجح وتخرج، والتحق بالعمل في أحد المستشفيات الحكومية. ينتمي منصور إلى أسرة متوسطة الحال، صحيح أنه أصبح "طبيبا نفسيا"، لكن هذا الاختصاص لا يعود عليه بالثراء الذي يتمناه، الأمر الذي وقف حاجزا أمام استمرار علاقته بالفتاة التي أحبها ولم يتمكن من الزواج منها، عاش خيبة قاسية، وصدمة عنيفة، لكن القدر ساق إليه فرصة للعمل في مصحة نفسية خاصة يقع مقرها وسط محمية طبيعية على جزيرة في البحر، كان الراتب مغريا، أفضل من البقاء في مستشفى حكومي، ضحك منصور في سره وظن أن القدر بدأ يفتح ذراعيه لأحلامه الكبيرة.. قبل بالعرض، وانتقل إلى عمله الجديد، وهنا تبدأ تفاصيل الرواية، حيث إن الواقع جاء عكس التوقعات، فقد كان المستشفى يعيش أجواء مثيرة للريبة، فهو في جزيرة بعيدة وسط البحر، منعزلا عن العالم، أشبه بالمعتقلات الأسطورية، يقضي النزلاء فيها نهارهم نائمين، ويمارسون حياتهم في الليل، هذا فضلا عن كثير من الحوادث المخيفة والغريبة التي تحدث والأشياء الغامضة الموجودة في القبو، حيث اللغز الكبير.
بعد التعرف إلى المرضى والاختلاط بهم، والتعرف إلى وليد الطبيب الذي كشف سر القبو فسجنه مدير المستشفى مدعيا أنه مريض ويحتاج إلى علاج، يتفق منصور مع وليد لكشف المستور ومعرفة السر الذي يخفيه ذاك القبو المعتم، والذي يتضح في النهاية أنه مخزن لتجارة المخدرات وتجارة الأعضاء البشرية. في التوقيت والشكل المناسبين ينجح منصور في كشف السر، إحضار الشرطة، تحرير المرضى السجناء والنجاة من مكيدة قتل مدبرة.

لغز القبو
تعد شخصية منصور الشخصية المحورية في الرواية، لكن هناك عديدا من الشخصيات التي يشكل حضورها إضافة دسمة إلى العمل الأدبي، أغنى عناصر الرواية وشكل ترابطا أدبيا لبقا، أسهم في بناء سردية قصصية فيها من الطواعية والقبول الكثير.
لكل شخص في هذه الرواية قصة، وكأننا نعيش قصصا متنوعة في رواية واحدة، ومنها، "هشام" الفنان الذي يهوى الرسم، وكلما رسم لوحة تنبأ فيها بمصير أحدهم، و"سالم" الذي يهوى العزف على الناي، اكتشف خيانة زوجته له مع مديره في العمل الذي كان صديقه على مقاعد الدراسة الجامعة، فقتلها ودخل في دوامة من المشكلات النفسية أوصلته إلى هذا المكان. إضافة إلى الشاعرة "ناعمة" والمغني "حسن" اللذين تربطهما علاقة عاطفية نشأت داخل أروقة المستشفى وأثارت غيرة حنان الممثلة الشهيرة سابقا، التي جاءت إلى هناك إثر أزمة نفسية تعرضت لها. ومن بين نزلاء المستشفى نور ابنة المالك، التي بسببها أنشأ والدها المستشفى، وتعاني اضطرابات نفسية، نور الضعيفة ما إن تتعرف إلى منصور حتى تقع في حبه، وتقرر قتله حين يرفض أن يبادلها المشاعر نفسها.
أما "وليد" الذي كان يعمل طبيبا في المستشفى قبل أن يكتشف سر القبو، ويسجنه المدير حتى لا يفشي سره، يتحول إلى الصديق المقرب لمنصور ويده اليمنى، ويتساعدان على اكتشاف السر وانجلاء الحقيقة. هذا ويعد القبو الشخصية الأكثر غموضا واللغز الذي تدور الرواية في فلكه.

الجشع والانحراف، وإغراءات المال
تقع الرواية في 176 صفحة وتتألف من 22 فصلا، صمم غلافها الفنان باسم صباغ وجمع بين جموح الأحمر القرمزي وتخفي الأسود القاتم، وهي تطرح أشكالا مختلفة من المشكلات النفسية، وكيفية التعامل معها، وعدم السماح بتحولها إلى مرض حقيقي يقتل صاحبه، عكس الروائي الدكتور محمد حمدان بن جرش مشاهد فيها من القسوة الكثير، لكن لم تخرج عن محور المنطق والواقع. ويقول عن روايته، "لعبت فيها الفانتازيا دورا مهما وشرعت فضاءات الخيال والتخييل على مصراعيهما، لكي يبعد من خلالها القارئ عن توقع الأحداث أو النتائج. ويضيف، "الرواية تضيء على آمال الشباب وكفاحهم من أجل الكسب الشريف والعمل الذي يخدم الفرد والمجتمع في آن معا، ثم يبرز المعاناة التي تواجه الشاب منصور، بسبب الجشع والانحراف، وإغراءات المال وغير ذلك".

الفانتازيا ملح طعام الرواية
يقول الكاتب، "إن رواية ليلة مجنونة تكشف صفقات قذرة وتكشف سر القبو والموتى والأحياء، فهي رواية تستحق القراءة والتأمل والتفكير وهذا الرأي لم ينشأ من فراغ، وإنما جاء بناء على ما تتضمنه الرواية من بناء فني متسق وشخصيات مدروسة وأحداث لافتة وتشويق وإثارة".
وضمن هذا البناء الفني الذي يعتمد "الفانتازيا" يستدرج الراوي القارئ نحو عالم من الدهشة والغرابة، فهو لا يريد من القارئ أن يتوقع الأحداث أو النتائج مباشرة، بل يفسح المجال أمام خياله لتصور أحداث مختلفة ونهايات جديدة، ويقول ابن جرش، "الفانتازيا في الرواية تشكل ملح طعام الرواية، فهي ترقى من الواقع المتخيل لتحقق أهدافها، من جهة أخرى، فهي تضيء على آمال الشباب وكفاحهم من أجل الكسب الشريف، والعمل الذي يخدم الفرد والمجتمع في آن معا. وهي أيضا تبرز ملامح القسوة والمعاناة التي تواجه الشاب منصور «بطل الرواية» بسبب الجشع والانحراف، وإغراءات المال وغير ذلك". وفي تعليقه على «حبكة» الرواية يقول، "إنه أمام هذه المعوقات التي تصادف أبطال هذا العمل، لا يستطيع الحب أن يزهر أو يتألق، إما بسبب الصدمات المتكررة كنكران الجميل، والهوى، والحقد، وإما بسبب الأمراض النفسية التي تخصب في مثل هذه الأحداث، وهذه المناخات. فعندما تلوح العواصف في الليالي المجنونة يحتار العقل ماذا يفعل وكيف يتصرف، حتى الإبداع والهوايات المفيدة تتقلص، وتبدو لا أهمية لها في حياة الإنسان".

الأكثر قراءة