علامات فقاعة إسكان أمريكية تختمر .. أسعار الرهن العقاري تثير مخاوف الركود
هل باتت سوق العقارات السكنية في الولايات المتحدة على وشك الانهيار، أم أن الأمر لن يتجاوز في أسوأ الأحوال تباطؤ العرض والطلب أو أحدهما، أم أن السوق تشهد تحولات تدخل ضمن الضغوطات الداخلية التي يتعرض لها الاقتصاد الأمريكي في الوقت الراهن؟.
في الحقيقة تتجاوز أهمية الإجابة عن هذا السؤال، ومعرفة ما الذي يحدث في قطاع العقارات السكنية في الولايات المتحدة، مسألة الاهتمام بالبحث في القضايا الداخلية لأكبر اقتصاد في العالم، وإنما يرتبط الأمر في جانب كبير منه بالاقتصاد العالمي ومستقبله، في وقت يمر فيه الاقتصاد الدولي بأزمة تضخمية تزداد حدتها يوما بعد آخر.
تنبع أهمية متابعة ومعرفة ما يحدث في قطاع العقارات السكنية الأمريكي، إذا ما تذكرنا أنه في المرة الأخيرة التي انهارت فيها هذه السوق حدثت هزة معها للاقتصاد العالمي، ودخل ركودا أجبر الحكومات على إنفاق تريليونات الدولارات للخروج منه.
خلال الفترة من 2005-2007 أعمت الفقاعة العقارية التي هيمنت على جوانب الاقتصاد الأمريكي أعين الخبراء عن حقيقة الوضع الاقتصادي في البلاد، وبحلول 2008 انفجرت تلك الفقاعة فانهارت قيمة الوحدات السكنية، وانهار ركن من أركان النظام المصرفي في الاقتصاد الرأسمالي، وكانت العواقب وخيمة على الجميع بعد أن ساد أعمق انكماش اقتصادي يشهده العالم منذ ثلاثينيات القرن الماضي، الذي عرف حينها بالكساد الكبير.
تبدو المؤشرات الأولية لأوضاع سوق العقار السكني الأمريكية غير مريحة بالنسبة لبعض الخبراء، حيث تراجعت مبيعات المنازل الجديدة في أيلول (سبتمبر) وسط ارتفاع معدلات الرهن العقاري التي دفعت المشترين بعيدا عن الأسواق.
ووفقا لتقرير مشترك لوزارة الإسكان والتنمية الحضرية الأمريكية ومكتب الإحصاء الأمريكي، تراجعت مبيعات المنازل حديثة التشييد بنسبة تقارب 11 في المائة في سبتمبر مقارنة بأغسطس الماضي، وانخفضت المبيعات 17.6 في المائة مقارنة بالعام الماضي، في الوقت ذاته ارتفع متوسط سعر المنزل الجديد إلى نحو 471 ألف دولار تقريبا بزيادة سعرية قدرها 14 في المائة تقريبا عن العام الماضي
في ظل تلك الأوضاع، ارتفعت معدلات الرهن العقاري لتصل إلى 7.29 في المائة لأول مرة منذ 2002، ولم يكن هذا المعدل قبل عام يتجاوز 3.14 في المائة.
من جهتها، تقول لـ"الاقتصادية" سابيل جيمس الخبيرة في مجال العقارات السكنية، "الارتفاع السريع في أسعار الرهن العقاري كان مدفوعا بحملة غير مسبوقة للاحتياطي الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة من أجل ترويض التضخم المتصاعد، وأدى الجمع بين رفع أسعار الفائدة من قبل البنك المركزي ومخاوف المستثمرين بشأن الركود والأخبار الاقتصادية المختلطة إلى تقلب معدلات الرهن العقاري بشكل متزايد خلال الأشهر الأخيرة الماضية".
لكنها تحذر من مواصلة رفع أسعار الرهن العقاري والوحدات السكنية في الوقت ذاته، حيث سيدفع إلى ركود في سوق الإسكان.
إلا أن البروفيسور فينلي تيدي أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة ووريك، يعتقد أن قطاع الإسكان الأمريكي رغم المصاعب التي يواجهها الآن لا يزال بعيدا عن الانهيار ولن يكرر تجربة 2008 أو يقود القطاع البلاد أو الاقتصاد الدولي إلى أزمة عامة.
ويؤكد لـ"الاقتصادية" أنه "من الممكن أن نشهد تقلبات في أسعار الوحدات السكنية، لكن إذا ما انخفضت فلن يكون الانخفاض حادا مثل الذي شهده أصحاب المنازل خلال فترة الركود 2008. فأحد الاختلافات الواضحة بين الآن و2008 يتمثل في أن الميزانيات المالية الشخصية لأصحاب المنازل أقوى بكثير مما كانت عليه قبل نحو 15 عاما، فأصحاب المنازل لديهم رهن عقاري مرتفع، لكن لا يزال السعر معقولا ويمكن تحمله، في ظل ملكيتهم لأطنان من الأسهم تمول أوضاعهم المالية".
مع هذا، فإن الإشارات التحذيرية من إمكانية تعثر الأسعار في قطاع الإسكان الأمريكي وسط ارتفاع التضخم وعدم اليقين الجيوسياسي دفعت الاحتياطي الفيدرالي إلى الحديث عن "علامات فقاعة إسكان أمريكية تختمر"، على الرغم من حديث خبراء البنك من أن الزيادة الحادة في أسعار المساكن في حد ذاتها لا تشير إلى وجود فقاعة، ألا أن هناك عوامل أخرى يجب مراعاتها عند تقييم الوضع من بينها تكلفة الائتمان والوصول اليه، واضطرابات العرض، وارتفاع تكلفة العمالة ومواد البناء الخام.
وفي الواقع، فإن المشهد الاقتصادي الأمريكي لم يتغير منذ تحذيرات الفيدرالي الأمريكي بشأن الفقاعة العقارية التي تختمر، حيث لا يزال هناك اعتقاد قوي في الدوائر الاقتصادية الأمريكية بأن أسعار المساكن ستستمر في الارتفاع، وإذا ساد هذا الاعتقاد بين المشترين، فإن عمليات الشراء الناشئة عن الخوف من ضياع الفرصة الراهنة من منطلق أن الأسعار على ارتفاعها الآن تظل أرخص من المستقبل، وتلك القناعات ربما تحفز المشترين على الإقبال على عمليات شراء واسعة النطاق بما يحرض الأسعار على مزيد من الارتفاع، ما يجعلنا في مواجهة سوق إسكان يصفها الخبراء في الولايات المتحدة بأنها "غير طبيعية".
مع هذا، يرى المهندس العقاري ريك شارجا أن جوهر الأزمة الأمريكية يكمن في عدم التوازن بين العرض والطلب، فالولايات المتحدة لم تقم بتشييد وحدات سكنية كافية لمواطنيها خلال العقد الماضي، مشيرا إلى خلل ضخم في السوق الأمريكية.
ويقول لـ"الاقتصادية": إن "عدد المنازل التي تم بناؤها في العقد الذي أعقب الأزمة المالية 2008-2009 أقل من أي عقد في ستينيات القرن الماضي، وعلى الرغم من تباين التقديرات، فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى ما يراوح بين اثنين - ستة ملايين منزل إضافي على الأقل".
وفي الواقع، فإن المشكلة الإسكانية في الولايات المتحدة بدأت تنعكس على الأداء الاقتصادي العام، فالنقص في الوحدات السكانية ميسورة التكلفة، ألحق الضرر بالشركات الأمريكية والاقتصاد الأوسع من خلال منع العمال من العيش في مناطق بها فرص اقتصادية، لكن تكاليف الإسكان مرتفعة فيها.
ولهذا يضطر أرباب العمل إلى العمل بأقل من إمكاناتهم، لأنهم لا يستطيعون جذب العمال أو الإبقاء عليهم، وقدرت إحدى الدراسات أن هذا الوضع كلف الاقتصاد الأمريكي ما يصل إلى 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي أو أكثر من 400 مليار دولار سنويا من الناتج الاقتصادي المفقود.
مع هذا، فإن البعض يستبعد انفجار الفقاعة العقارية الأمريكية على الأقل في الأجل القريب، فمعايير الإقراض باتت أكثر صرامة بسبب الدروس المستفادة من الأزمة العقارية 2008، واللوائح الجديدة التي تم سنها منذ ذلك الحين، وهذا يعني أن أولئك الذين تمت الموافقة على حصولهم على قرض عقاري في الوقت الحالي أقل عرضة للتخلف عن السداد.
بدورها تقول لـ"الاقتصادية" نيكول باشود الخبيرة المصرفية "من النادر أن تصادف اليوم أحد المقرضين الذين يمكن أن يقدموا لك قرضا دون وثائق حيث لا يتعين على مقدم الطلب تقديم وثائق تكشف عن دخله الحقيقي، وكان هذا النوع من القروض شائع قبل انهيار قطاع الإسكان 2008. اليوم معايير الإقراض أكثر إحكاما وأصبحت درجات الائتمان للقروض العقارية الجديدة أعلى بكثير في المتوسط، مقارنة بما كانت عليه في أوائل القرن".
إذن، الأكثر ترجيحا هو حدوث تباطؤ تدريجي في وتيرة ارتفاع أسعار المساكن في الولايات المتحدة مع مواصلتها الارتفاع في الوقت ذاته، لكن ليس بالسرعة التي هي عليها الآن.
ويتوقع بنك جي بي مورجان في تقرير خاص عن أسعار المساكن في الولايات المتحدة أن يبلغ متوسط ارتفاع أسعار المنازل نحو 12.5 في المائة هذا العام مقابل 20 في المائة العام الماضي، وفقا لتقديرات البنك، ويعد خبراء البنك أن هذا اتجاه عالمي في الوقت الحالي، إذ ارتفعت أسعار المساكن على المستوى الدولي بأسرع وتيرة منذ 40 عاما.
وتعزز بيانات الاقتصاد الكلي الأمريكي مرور سوق الإسكان بمرحلة انتقالية حادة، مدفوعة باقتصاد تنتابه عديد من الشكوك والفتور، وذلك على الرغم من انخفاض معدلات البطالة، ما يجعل بعض الخبراء يتوقعون عملية تصحيح في السوق ربما تؤدي إلى انخفاض أسعار المنازل 20 في المائة العام المقبل، بعد أن وصلت الأسعار إلى مستويات قياسية حاليا.
لكن تلك التوقعات ربما تذهب أدراج الرياح بل ويحدث العكس تماما إذا واصل الفيدرالي الأمريكي رفع أسعار الفائدة باعتبارها وسيلته المفضلة للسيطرة على التضخم، حيث إن رفع أسعار الفائدة سيقابله تلقائيا ارتفاعا في قروض الرهن العقاري ومن ثم إحجام الكثيرين عن الإقدام على شراء منزل أو تغيير منزلهم بآخر جديد، ما يعني أن سوق العقار السكنية في الولايات المتحدة ستكون مضطربة العام المقبل.