كيف سنتذكر عصر الأموال الرخيصة؟
بعد نهاية كل عصر، تميل حفنة من الصور إلى البقاء في الأذهان. بالنسبة إلي، فترة الوفرة المالية التي وصلت إلى نهاية فوضوية عام 2008 سيعبر عنها دائما معرض التوظيف الذي زرته في عامي الأخير من الجامعة في 2006. أتذكر أني كنت أتجول من ركن وكالة توظيف إلى آخر لجمع الهدايا القيمة. حصلت على مذياع لطيف جدا من بنك جولدمان ساكس. شركة أخرى "نسيتها" كانت توزع آلات الفشار. لم يكن هناك شك حقيقي في أننا سنشغل وظائف جيدة. كان السؤال أيها سنختار.
بالطبع ذلك لم يدم. كان العقد الذي أعقب الأزمة المالية مريرا بعدد من المقاييس، ولا سيما فيما يخص حزم أجور الأفراد. كان نمو الأجور في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ضعيفا على نحو غير عادي. في المملكة المتحدة نمت الأجور الحقيقية بمعدل 33 في المائة في كل عقد خلال الفترة 1970 ـ 2007، لكنها لم تنم قط في العقد الثاني من القرن الـ21.
نشاهد الآن عصرا آخر يصل إلى نهايته. مع الأسف، ليس عصر الأوقات الاقتصادية الصعبة، بل العصر الذي كانت فيه تلك المشكلات مصحوبة بأسعار فائدة منخفضة جدا. البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم ترفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم. إذن، ما الذي سنتذكره عن عصر الأموال الرخيصة؟
ربما تعتمد الإجابة على من تكون. بالنسبة إلى مالكي المنازل، ساعدت مدفوعات الرهن العقاري المنخفضة جدا على تخفيف وطأة ركود نمو الأجور. كما أسهمت المعدلات المنخفضة في زيادة أسعار المساكن وغيرها من الأصول. كان ينتاب مالكي المنازل شعور غريب بأن عقاراتهم تكسب أكثر مما يكسبون. أما الذين لم يصعدوا سلم الإسكان بعد فقد شاهدوا الدرجة الأولى منه تبتعد أكثر. في المملكة المتحدة، أصبح 55 في المائة من الذين ولدوا بين 1956 و1960 مالكي منازل في سن الـ30. أما لمن هم مثلي ولدوا بين 1981 و1985، كانت النسبة 27 في المائة فقط.
تغيرت سوق السيارات أيضا. بدلا من شراء سيارة جديدة بالدفع نقدا مقدما، أصبح شائعا بصورة متزايدة استخدام خطط "عقد شراء شخصي" التي أتاحت للعملاء دفع وديعة ورسوم شهرية. سمح هذا للناس بقيادة سيارات فارهة أكثر. في 2006، تم دفع 46 في المائة من مبيعات السيارات الجديدة في المملكة المتحدة من خلال نقاط بيع خاصة بأعضاء "رابطة التمويل والتأجير". بحلول 2019، بلغت تلك النسبة 92 في المائة تقريبا. لم تكن المملكة المتحدة تزداد ثراء كأمة، لكنك لم تكن لتعرف ذلك نظرا لسيارات أودي المنتشرة على الطرقات.
أسعار الفائدة المنخفضة أدت كذلك إلى تدفق الأموال إلى الشركات الناشئة الخاسرة التي وعدت بالنمو بسرعة. بدءا من "أوبر" و"ديليفرو" وصولا إلى تطبيقات التوصيل السريع للبقالة مثل "جيتير" و"جوباف". مول المستثمرون ركوب سيارات الأجرة، والوجبات الجاهزة، وخدمات التوصيل السريع لأشياء مثل الجعة والشوكولاتة.
ثم كان هناك توسع في شركات "اشتر الآن وادفع لاحقا"، التي تعقد شراكة مع تجار التجزئة لمنح العملاء خيار دفع مشترياتهم عبر أقساط دون فوائد. كان نموذج الأعمال هذا مؤهلا تماما لمساعدة تجار التجزئة على زيادة المبيعات في عصر كان يمر فيه المستهلكون الشباب بضائقة مالية في حزم رواتبهم. مثلا، قالت شركة كلارنا السويدية "إن تجار التجزئة الأمريكيين الذين يقدمون للعملاء أربعة أقساط دون فوائد أبلغوا عن زيادة 68 في المائة في متوسط قيمة الطلب وزاد عدد مرات الشراء 21 في المائة". وجد استطلاع أجراه مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في 2021 أن 78 في المائة من مستخدمي خدمة "اشتر الآن وادفع لاحقا" اختاروا الخدمة لسهولتها، في حين قال 51 في المائة أيضا "إنها الطريقة الوحيدة لدفع تكاليف مشترياتهم".
ستكون مبالغة في التعنت قولنا إن الفرصة التي تتيحها أسعار الفائدة المنخفضة قد تبددت هباء على خدمات مثل هذه. ساعدت المعدلات المنخفضة أيضا على تعزيز استثمارات مهمة في الطاقة المتجددة ودعم طفرة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة. لكني سأتذكر هذا العقد بأنه وقت جاء فيه الركود الاقتصادي بمظهر ثراء خادع. كان المال محدودا، لكن استطاع الناس استدعاء سيارات أجرة رخيصة وشراء أشياء حتى عندما لا يستطيعون تحمل تكاليفها.
تتعرض نماذج الأعمال هذه الآن لضغوط. تراجعت أسعار أسهم "أوبر" و"ديليفرو". تطبيقات التوصيل السريع للبقالة تغلق أو تدمج مع أعمال أخرى. انخفض تقييم "كلارنا" التي كانت ذات يوم شركة التكنولوجيا الخاصة الأعلى قيمة في أوروبا، من 46 مليار دولار إلى 6.7 مليار دولار.
لهذا السبب، أرى أن الصورة الباقية في ذهني لعصر الأموال الرخيصة ستكون الإعلان الأخير عن إمكانية أن يدفع العملاء الآن مقابل الوجبات الجاهزة من "ديليفرو" بأقساط عبر "كلارنا". تقول "ديليفرو" و"كلارنا"، إن هذا لا يمثل مشكلة، نظرا إلى أن كثيرا من الناس يشترون الوجبات الجاهزة باستخدام بطاقات الائتمان. مع ذلك، من الصعب تجاهل الانطباع بأنهما مثل شخصين منهكين يدعمان بعضهما بعضا بعد انتهاء حفلة طويلة.