معضلة الاحتياطي الفيدرالي .. إلى متى الاستمرار في مكافحة التضخم؟
في خطاب مدته ثماني دقائق ألقاه عند سفوح جبال روكي في وايومنج في أواخر آب (أغسطس)، سعى جاي باول إلى إزالة الشكوك المتبقية بشأن التزام البنك المركزي الأمريكي في محاربة أسوأ تضخم منذ عقود.
استحضارا لإرث بول فولكر – سلفه الذي تغلب على التضخم في الثمانينيات - تعهد الرئيس الحالي بأن الاحتياطي الفيدرالي "سيستمر" في مكافحته حتى تتم السيطرة على ضغوط الأسعار.
لكن بعد مرور شهرين لا يزال من غير الواضح تماما ماهية الإجراءات التي سيتخذها بالتحديد. لا تزال هناك مجاهيل هائلة حول مدى سرعة اعتدال التضخم، ومدى فقدان الوظائف مع تهدئة البنك المركزي للاقتصاد، وما إذا كان النظام المالي قادرا على استيعاب مثل هذه الزيادة السريعة في تكاليف الاقتراض.
بالنسبة إلى الاحتياطي الفيدرالي أدى هذا الافتقار إلى اليقين إلى إطلاق نقاش محتدم حول تكتيكات البنك وكيفية معرفته أنه قام بما يكفي.
تقول جوليا كورونادو، الخبيرة الاقتصادية السابقة في الاحتياطي الفيدرالي، التي تدير الآن شركة ماكرو بولسي بيرسبكتفز: "إننا بالتأكيد ننتقل إلى مرحلة جديدة، أصبح فيها إرسال الرسائل أكثر تعقيدا. البدء من الصفر ومحاولة اللحاق بالركب شيء (...) وأن تكون في المنطقة حيث من الواضح أنك أقرب إلى موقف تقييدي وأن الاقتصاد والأسواق العالمية تستجيب، شيء آخر".
منذ بداية العام حتى الآن رفعت اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة سعر الفائدة من نحو صفر إلى 3 في المائة، بعدما تحركت على عجل بزيادات بلغت كل واحدة منها 0.75 نقطة مئوية في اجتماعاتها الثلاثة الماضية فيما أصبح أحد أكثر الحملات جرأة لتشديد السياسة النقدية في تاريخها الممتد منذ 109 أعوام. ولزيادة جهودها، بدأت أيضا في تقليص ميزانيتها العمومية التي تبلغ تسعة تريليونات دولار تقريبا.
من المنتظر أن تنفذ اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة رابع زيادة ضخمة على التوالي في سعر الفائدة هذا الأسبوع وأن تشير إلى زيادات أخرى قادمة، قبل ستة أيام من انتخابات تخاطر بتفكيك سيطرة الديمقراطيين على الفرع التشريعي وإعادة تشكيل نطاق ما يمكن أن يحققه جو بايدن بشكل أساسي في النصف الثاني من ولايته الرئاسية.
نظرا لتراجع شعبيته بسبب ارتفاع الأسعار ومخاوف الركود، شجع بايدن الاحتياطي الفيدرالي على استخدام أدواته بينما تؤكد إدارته أن التضخم "أولويتها الاقتصادية الأولى".
لكن مع اقتراب شبح الانكماش الاقتصادي الحاد، زاد منتقدو الاحتياطي الفيدرالي من حدة انتقاداتهم. الآن يحذر الديمقراطيون من أن البنك المركزي يخاطر بتعريض ملايين الأمريكيين للخطر عبر دفعه الاقتصاد إلى الركود. وتحذر مجموعة متنامية من الاقتصاديين من التصحيح المفرط، ما يؤكد خطر التحرك بسرعة كبيرة وكسر شيء.
التوجه الاستراتيجي للاحتياطي الفيدرالي له تداعيات عالمية هائلة، ليس فقط بالنسبة إلى مجموعة البنوك المركزية التي تأخذ إشاراتها من الولايات المتحدة في مكافحة التضخم، بل أيضا للاقتصادات النامية المثقلة بالديون التي تواجه حالات تخلف محتملة عن السداد مع ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي.
يقول داليب سينج، الذي قاد سابقا مجموعة الأسواق في الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك قبل أن يشغل منصب نائب مدير المجلس الاقتصادي الوطني لبايدن: "(الاحتياطي الفيدرالي) في مكان صعب للغاية. حقا، يشعر كل محافظ بنك مركزي في جميع أنحاء العالم بالتوتر والقلق والخوف من أنهم قد يفقدون عقودا من المصداقية التي اكتسبوها بصعوبة عبر مكافحة التضخم".
تحت غطاء الاقتصاد
ظاهريا، يشير الاقتصاد الأمريكي إلى بعض علامات القوة، لكن مع التضخم الذي لا هوادة فيه وارتفاع تكاليف الاقتراض التي بدأت تحدث أثرها، ظهرت تصدعات.
تستمر سوق العمل في تحقيق مكاسب ملحوظة. حتى الآن في عام 2022، تمت إضافة 420 ألف وظيفة في المتوسط شهريا، انخفاضا من 562 ألف وظيفة في العام الماضي، لكنها لا تزال أعلى كثيرا مما يعده الاقتصاديون مستداما. في غضون ذلك، يقف معدل البطالة عند أدنى مستوى له قبل انتشار الجائحة: 3.5 في المائة.
وعلى الرغم من بوادر الحلحلة الوليدة، إلا أن سوق العمل لا تزال من بين أكثر الأسواق ضيقا في التاريخ. مقابل كل شخص عاطل عن العمل، لا يزال هناك نحو وظيفتين شاغرتين. وفي كثير من الولايات في جميع أنحاء البلد، هناك ثلاثة. للتغلب على هذا الوضع، كان على أرباب العمل زيادة الأجور بسرعة، مع بدأ الوتيرة في التراجع أخيرا فقط.
لكن التضخم تجاوز التقلبات في الأجور إلى حد كبير، وهو يجري الآن بمعدل سنوي 8.2 في المائة. ومن المثير للقلق أن الإجراءات "الأساسية"، التي تستبعد العناصر المتقلبة مثل الغذاء والطاقة، وتشمل فئات مثل الخدمات والتكاليف المتعلقة بالإسكان، تستمر في التسارع، ما يشير إلى أن القضاء على ضغوط الأسعار أصبح أكثر صعوبة.
لقد طغت شدة صدمات الأسعار على أي تفاؤل متبق بشأن الاقتصاد. بينما انتعش نمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث بعد انكماشه في النصف الأول من العام، كانت هناك إشارات واضحة على ضعف الطلب الاستهلاكي.
كما تضرر النشاط التجاري الأمريكي بالفعل، حيث تقلص في أكتوبر للشهر الرابع على التوالي وأصبح المصنعون ومقدمو الخدمات متشائمين على نحو متزايد. ساعد ذلك في تخفيف الاختناقات في الإمدادات، ما أدى إلى انخفاض تكاليف الشحن.
في صدارة هذا المشهد توجد سوق الإسكان، التي تشهد حالة من التراجع تزامنا مع تجاوز الفائدة على الرهون العقارية لمدة 30 عاما، هذا الأسبوع، مستوى 7 في المائة ـ أعلى مستوى منذ عام 2002. انهارت الأسعار على مستوى البلد، لكن الانخفاضات كانت أكبر في المدن التي شهدت أكبر طفرات منذ بداية الجائحة.
يتوقع الاقتصاديون أن تصبح التصدعات أكثر وضوحا مع بدء تضخم آثار حملة التشديد من جانب الاحتياطي الفيدرالي. تستغرق تعديلات السياسة وقتا كي تنتشر عبر الاقتصاد، وهي تظهر في البيانات بعد فترة طويلة من حدوث الضرر. ويعني هذا التأخير أن الجزء الأكبر من الإجراءات التي اتخذها الاحتياطي الفيدرالي حتى الآن – والتي أدت إلى ارتفاع كبير في قيمة الدولار وقلصت الطلب على الأصول الخطرة – لم تتحقق أهدافها بالكامل بعد. كما يسلط ذلك الضوء على تكاليف رد فعل الاحتياطي الفيدرالي البطيء على التضخم الذي كان يعتقد في البداية أنه "عابر".
يقول راندال كوارلز، نائب رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق للإشراف، الذي غادر في أواخر عام 2021 ودعم ارتفاع أسعار الفائدة في الخريف الماضي: "لقد عقد الاحتياطي الفيدرالي مهمته إلى حد كبير بسبب الانتظار لبدء رفع أسعار الفائدة حتى مارس". أضاف: "لو فعلنا ذلك، نظرا لتأخر (تأثير) السياسة النقدية، لكنا قادرين بالفعل على رؤية آثار زيادات أسعار الفائدة هذه".
حجة التباطؤ
يعتقد كثيرون الآن أن التضخم قد بلغ ذروته وأن من المحتمل حدوث ركود في العام المقبل، ما أشعل نقاشا داخليا في الاحتياطي الفيدرالي، وخارجيا حول مدى زيادة الضغط الذي ينبغي أن يمارسه البنك المركزي على الاقتصاد.
أشار كبار المسؤولين إلى قلق أكبر بشأن بذل القليل من الجهد بدلا من بذل الكثير، ما يعيدنا إلى الأخطاء التي ارتكبت في السبعينيات، والتي زرعت بذور التضخم المتفشي. لتجنب إحياء تلك الأخطاء، قال الاحتياطي الفيدرالي إنه سينتظر إشارات موضوعية على أن التضخم يتراجع نحو هدفه البالغ 2 في المائة قبل إيقاف زيادات أسعار الفائدة مؤقتا.
لكن الوتيرة التي يتحرك بها تجعل بعضهم يشعرون بالقلق. تقول إيلين ميد، كبيرة مستشاري مجلس محافظي البنك المركزي حتى عام 2021: "كل زيادة إضافية (بـ 75 نقطة أساس) تجعلني أشعر أن الطائرة ستتحطم بدلا من الهبوط بسلاسة. هناك سبب للمضي بشكل أبطأ قليلا، وذلك لمراقبة آثار السياسات التي تطبقها والتصرف إزاءها. بهذه الوتيرة السريعة، لم يساعدوا أنفسهم على الإطلاق".
وقد بدأ بعض مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي بالفعل في إرساء أسس زيادات أقل في أسعار الفائدة، مثلما فعل البنك المركزي الكندي هذا الأسبوع والبنك الأسترالي في وقت سابق من هذا الشهر. قالت ماري دالي، رئيسة الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو، الأسبوع الماضي: "حان الوقت للبدء في التخطيط لخفض معدلات رفع الفائدة".
قد يمثل ديسمبر إيذانا ببدء خفض الزيادات إلى نصف نقطة، لكن هذا يعتمد على بيانات الوظائف والتضخم التي تصدر قبل ذلك الموعد. كما أنه لا يوجد إجماع واضح حتى الآن بين صانعي السياسة، حيث يشعر بعضهم بالقلق من إفساد الأمور بسبب التوقعات الخاطئة بأن التضخم يعتدل.
إذا قلصوا حجم الزيادات، فقد يتحرك المسؤولون لرفع توقعات العام المقبل للمعدل القياسي إلى ما بعد المستوى المتوسط البالغ 4.6 في المائة الذي تم تحديده سابقا، للتحوط من قيام المستثمرين بالتسعير قبل الأوان مرة أخرى وعلى نحو بعيد عن السياسة المتشددة. تشير أسواق العقود الآجلة لصناديق الاحتياطي الفيدرالي الآن إلى أنها تبلغ ذروتها عند نحو 5 في المائة.
مع تقدم الاحتياطي الفيدرالي، من المقرر أن تتصاعد الضغوط السياسية الصارمة. وقد صعد الديمقراطيون في مجلس الشيوخ بالفعل من توبيخهم، حيث انضم شيرود براون، رئيس اللجنة المصرفية في مجلس الشيوخ، وجون هيكنلوبر من كولورادو، هذا الأسبوع إلى السناتورة إليزابيث وارين من ولاية ماساتشوستس وبيرني ساندرز من ولاية فيرمونت في حث البنك المركزي على إعادة النظر في خططه.
ينصب قلقهم على الوظائف. يتوقع معظم مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي ارتفاع معدل البطالة إلى 4.4 في المائة، لكن الكثير من الاقتصاديين في وول ستريت والأكاديميين يعتقدون أن هذه التوقعات متفائلة للغاية.
يعتقد دويتشه بانك أن إعادة التضخم إلى الهدف تتطلب تجاوز معدل البطالة 5.5 في المائة. ويجادل لورنس بول من جامعة جونز هوبكنز بأن التقدير الأكثر واقعية أعلى من 7 في المائة.
مثل هذه الخسائر الكبيرة في الوظائف، والركود الذي ستحدثه، من شأنه أن يسبب أغلب الألم لأولئك الأقل قدرة على تحمله، ما يعكس معظم، إن لم يكن كل، المكاسب التي تحققت في التعافي بعد الجائحة.
تقول ستيفاني آرونسون، موظفة سابقة في الاحتياطي الفيدرالي تعمل الآن في معهد بروكينجز: "إحدى الحقائق المؤسفة جدا للوضع الحالي هي أن الأشخاص الذين يعانون حقا الآن ارتفاع معدلات التضخم – الأسر ذات الدخل المنخفض – هم أيضا الأشخاص الذين سيتحملون الوطأة الأكبر للتشديد. هذا وضع لا رابح فيه".
حديث صريح
هناك خوف آخر يتمثل في وقوع حادث مالي يهدد استقرار النظام الأوسع.
يقول ألان بليندر، الذي شغل منصب نائب رئيس الاحتياطي الفيدرالي في التسعينيات: "ما زلنا الغوريلا التي تزن 800 رطل في الاقتصاد الدولي، وفي الجزء المالي من ذلك، نحن الغوريلا البالغ وزنها ثمانية آلاف رطل".
الجهات الأكثر ضعفا هي الاقتصادات الناشئة والنامية المثقلة بالديون، التي تتأثر بقوة الدولار وتكاليف الاقتراض المتزايدة بسرعة. حذرت رئيسة صندوق النقد الدولي الشهر الماضي من أن 60 في المائة من البلدان منخفضة الدخل تعاني ضائقة ديون أو تقترب من ذلك، وسيكون هناك "حتما" حالات تخلف عن السداد.
كذلك يتزايد القلق في أوروبا التي تواجه أزمة طاقة حادة مرتبطة بحرب أوكرانيا. حتى مع تأرجح الاقتصاد على شفا الركود، تبع البنك المركزي الأوروبي مرة أخرى الأسبوع الماضي خطى الاحتياطي الفيدرالي ورفع أسعار الفائدة 0.75 نقطة مئوية لمكافحة التكاليف المرتفعة.
يلاحظ بليندر أن تأثر الولايات المتحدة من الأحداث في الخارج ضئيل، لكنه يقر بأنه "ليس صفرا".
قدمت الاضطرابات التي شهدتها الأسواق المالية في المملكة المتحدة الشهر الماضي، على الرغم من كونها ناتجة عن أخطاء سياسية، قصة تحذيرية حول كيف يمكن للأحداث غير المتوقعة أن تتصاعد بسرعة وتتطلب تدخلات مكلفة. تقول كورونادو: "لا تريد أن تكون في مكان بنك إنجلترا".
ما يزيد المخاوف هو هشاشة سوق ديون الحكومة الأمريكية التي تبلغ 24 تريليون دولار، والتي تشكل أساس النظام المالي العالمي. نادرا ما كانت ظروف التداول أكثر تقلبا والسيولة تحوم الآن عند المستويات التي شوهدت لآخر مرة خلال الانهيار في مارس 2020.
حينها تدخل الاحتياطي الفيدرالي للتأكد من أن الاضطرابات هناك لم تؤد إلى أزمة كاملة. هذه المرة تناقش وزارة الخزانة إعادة شراء بعض سنداتها لتحسين السيولة، على الرغم من التأكيد على أن السوق تعمل بشكل عام.
بحسب سينج، الذي يعمل الآن في شركة بي جيه آي إم فيكسد إنكوم، مثل هذه السياسة تتطلب تأكيدا واضحا بأن هذه التدخلات تتعلق فقط بصحة السوق ولا تحمل "أي إشارة حول الموقف المناسب لسياسة (الاحتياطي الفيدرالي)".
يقول مسؤولون سابقون آخرون إن الحديث الصريح من الاحتياطي الفيدرالي سيكون حاسما أيضا في الأشهر المقبلة، خاصة أن الآراء منقسمة داخليا.
يحذر كوارلز من أن التحدي الأكبر الذي يواجه الاحتياطي الفيدرالي، والذي ربما يظهر في الربع الأول من 2023، سيكون التغلب على "تشتيت الرسالة" المحتمل حيث تصبح البيانات أقل وضوحا.
بالنسبة إلى أندرو ليفين، مخضرم في الاحتياطي الفيدرالي منذ عقدين، الأمر الأكثر أهمية في هذه المرحلة هو أن يكون البنك المركزي صريحا بشأن الصعوبات المقبلة.
يقول: "إنه مدين للناس بشرح الأمر كما لو كان فريقا من الأطباء والقول: ’هذا مرض خطير للغاية، سنضطر إلى تحويلك إلى الجراحة وسيكون التعافي بطيئا، لكننا نعتقد أن هذا ضروري لاستعادة صحتك‘".