أوروبا تواجه عاصفة اقتصادية يصعب إنكارها .. ديون سيادية تصل إلى 189 % من الناتج

أوروبا تواجه عاصفة اقتصادية يصعب إنكارها .. ديون سيادية تصل إلى 189 % من الناتج
أوروبا تواجه عاصفة اقتصادية يصعب إنكارها .. ديون سيادية تصل إلى 189 % من الناتج

تواجه أوروبا في الوقت الراهن عاصفة اقتصادية يصعب إنكارها، حيث إن أزمة الطاقة تترافق مع معدلات تضخم مرتفعة وسط احتمال التعرض لركود اقتصادي.
وفي وقت تتفاقم فيه أزمة تكاليف المعيشة في دول القارة بلا استثناء، يظل احتمال تراجع معدل النمو شبحا محلقا في الأفق الاقتصادي الأوروبي، ومع تنامي التقييمات القاتمة للمستقبل الاقتصادي للقارة التي قادت الاقتصاد العالمي قرونا، تتزايد مشاعر القلق لدى المستثمرين وترتفع معدلات عدم الثقة بين المستهلكين.
وسط هذا كله تزداد المخاوف يوما بعد آخر من أن تضرب بعض دول القارة الأوروبية، تحديدا منطقة اليورو، أزمة ديون سيادية، مع تكثيف الحكومات إنفاقها العام لحماية المستهلكين في ظل ارتفاع تكاليف الطاقة.
تشير الأرقام إلى أن بعض دول منطقة اليورو تتجه حاليا نحو أزمة الديون السيادية، وتشمل القائمة مجموعة الدول الهشة ماليا مثل إيطاليا التي اختتمت الربع الأول من هذا العام بإجمالي دين حكومي بلغ 152.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، واليونان 189 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، والبرتغال 127 في المائة، وإسبانيا 118 في المائة، وفرنسا 114 في المائة، وبلجيكا 108 في المائة، وقبرص 105 في المائة.
وفي ظل حكومات يمينية غير ودودة مع فكرة الاتحاد الأوروبي واليورو كما هي الحال في إيطاليا فإن انفجار أزمة الديون السيادية قد يعني إعادة النظر في التصنيف الائتماني لتلك الدول، وتراجع مستواها الاقتصادي بشدة، بما قد يدفع في لحظة من اللحظات إلى تخليها عن اليورو العملة الأوروبية الموحدة، والسير على خطى البريطانيين والخروج من الاتحاد الأوروبي.
تكمن المشكلة في أن بعض الدول الأوروبية ربما لن تكون قادرة على سداد ما عليها من ديون سيادية بسبب ضعف آفاق النمو، وارتفاع معدلات الفائدة، ونقص القدرة المالية، وتوسع العجز الحكومي.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور دي. إم. فيليب أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة ستانفورد "وضع ديون كل دولة أوروبية فريد من نوعه، لكن كثيرا من تلك الدول ستكافح لتجنب مشكلات الديون في الأعوام المقبلة وستكون النتيجة مؤلمة، وبصفة عامة فإن الانفاق يمثل مصدر القلق الكبير لأوروبا عموما، ودول جنوب القارة مثل اليونان لديها تاريخيا مستويات ديون وعجز أعلى من دول شمال أوروبا، لكن نتيجة الحرب الأوكرانية ووقف إمدادات الغاز والنفط الروسي لأوروبا وارتفاع أسعار الطاقة فإن دول الشمال الأوروبي معرضة لخطر إنفاق مزيد من الأموال، ومن ثم مزيد من العجز المالي والاستدانة الحكومية".
ويضيف "تشير التقديرات إلى أن أزمة الطاقة كلفت أوروبا نحو 700 مليار يورو، وهذا سيؤدي إلى مزيد من الضعف الاقتصادي.
المشكلة تكمن في أن التضخم صدم بالفعل القارة الأوروبية، إذ سجل في منطقة اليورو في سبتمبر الماضي 10 في المائة، فاذا أخذنا في الحسبان أن الديون نفسها تضخمية، وترافق هذا الوضع مع هشاشة المنظومة البنكية في بعض الدول الأوروبية مثل إيطاليا، ما يدفع الحكومات إلى تقديم المساعدة للأنظمة المصرفية، وتزامن هذا المأزق مع زيادة في الإنفاق الحكومي ومن ثم مزيد من الديون الإضافية لتمويل تكاليف الطاقة، فإن الضغط على النظام المالي الأوروبي يصبح أكثر خطورة يوما بعد آخر، وتدريجيا تفقد المنظومة المالية الأوروبية قدرتها على امتصاص أو استيعاب أي ضغوط اقتصادية كبيرة جديدة مفاجئة".
مع هذا يعتقد بعض الخبراء المصرفيين أن الحديث عن أزمة ديون أوروبية تلوح في الأفق يصعب الجزم به تماما، على الرغم من إقرارهم بوجود بوادر لعاصفة عنيفة تتراكم غيومها على أبواب القارة، لكن ضبابية المشهد تحول دون القطع بقوة تلك العاصفة من وجهة نظرهم.
بدورها، ترى إلينا لي الخبيرة المصرفية والاستشارية في عدد من البنوك الأوروبية، أن الإجابة عن حل مشكلة الديون الأوروبية لا تكمن بالضرورة في كبح جماح الإنفاق الحكومي للتخفيف من أزمة الطاقة، معتبرة هذا النوع من الإنفاق ضروريا تماما كالإنفاق الحكومي خلال فترة وباء كورونا.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن الأولوية في الوقت الراهن لتخفيف آلام الاقتصاد الناجمة عن ارتفاع تكاليف المعيشة بصفة عامة، فالتضخم هو الخطر الهائل الذي يهدد الاقتصادات الأوروبية، والمؤشرات الأخيرة تشير إلى تراجع استهلاك البنزين، وهذا يعني أن التضخم بدأ بالفعل في إضعاف النشاط الاقتصادي، وأعتقد أن أزمة الديون مصدر قلق ثانوي".
ويرى بعض الخبراء أن جزءا من حل مشكلة الديون الأوروبية سيقع على البنك المركزي الأوروبي الذي سيواصل شراء ديون الدول الأعضاء الهشة ماليا، والامتناع عن رفع أسعار الفائدة، وقد بلغت مشتريات الديون السيادية في منطقة اليورو في 2020 و2021 ما يعادل 120 في المائة من صافي إصدار الديون السيادية.
مع هذا يعتقد آخرون أن هذا الحل ليس أكثر من حل مؤقت، وأن منطقة اليورو تتجه بالتأكيد نحو أزمة ديون أخرى رغم أنها قد لا تكون وشيكة الحدوث، فالمالية العامة اليوم في حالة أسوأ مما كانت عليه في ذروة الديون السيادية السابقة، كما أن احتياجات التمويل الحكومية قد تزداد في الأشهر أو الأعوام المقبلة، فالتدخل الروسي في أوكرانيا دفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخذا قرارات مكلفة فيما يتعلق بالعقوبات المفروضة على روسيا واستقبال اللاجئين الأوكرانيين والبحث عن بدائل للطاقة الروسية، كما أن أوروبا اكتشفت أن طموحاتها بشأن المناخ مبالغ فيها وغير واقعية.
في ظل تلك الأوضاع المعقدة تشير لـ"الاقتصادية" اليزابيث كريتشي المحللة المالية في بنك إنجلترا إلى أن تحدي أزمة الديون الأوروبية قد يزداد تعقيدا نتيجة ارتفاع تكاليف الاقتراض لحكومات منطقة اليورو، ففي النصف الثاني من العام الجاري وبعد أعوام من الاستقرار النسبي، ارتفعت أسعار الفائدة التي تطلبها الأسواق من الحكومات لسداد الدين العام المستحق، واتسعت فروق عائدات السندات السيادية بين الدول الأعضاء التي تتسم أوضعها المالية بالهشاشة مثل إيطاليا والدول الأكثر استقرارا ماليا مثل ألمانيا.
وتحذر اليزابيث كريتشي من أن تلك الفروق بين دول مثل إيطاليا وأخرى مثل ألمانيا توجد قوة طرد مركزية بين المركز والأطراف داخل الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، وأن هذا الوضع قد يتدهور بشكل أسرع مما يتوقعه الجميع ويعرض تماسك العملة الأوروبية للخطر.
في الواقع فإن الضغط الاقتصادي الذي يتعرض له الاتحاد الأوروبي، تحديدا منطقة اليورو، أوجد ما يعده البعض عورا في التفكير الاقتصادي، إذ يبدو اليوم ما يسمى "التحيز إلى الوطن" لدى البنوك الأوروبية ظاهرة آخذة في التنامي، وتعني تلك الظاهرة أن هناك ميلا لدى البنوك إلى تكديس السندات السيادية المحلية، وإذا كانت أوروبا قد نجحت خلال جائحة كورونا في إخفاء نقاط الضعف الكامنة في القطاع المصرفي مؤقتا، تحت غطاء وقائي بضمانات عامة للبنوك بأن الحكومات ستساندها إذا ما تعرضت لهزة نتيجة الجائحة، فإن تلك المساندة لا يمكن أن تدوم طويلا.
باختصار ستواجه بعض دول منطقة اليورو في جنوب أوروبا مشكلات مالية في الفترة المقبلة حتى مع أسعار فائدة مواتية، لكن الخطورة تكمن في أن دول الشمال الأوروبي التي اعتادت تاريخيا على تقديم يد المساعدة لإنقاذ دول الجنوب الأوروبي للحفاظ على وحدة الاتحاد وتماسك العملة الأوروبية الموحدة، باتت هي الأخرى في وضع لا تحسد عليه، إلى الحد الذي دفع بألمانيا إلى المطالبة بأن تكون الأموال المتبقية في صندوق "الجيل القادم للاتحاد الأوروبي" الذي أسس خلال جائحة كورونا بقيمة 750 مليار يورو لمواجهة الجائحة، أن تستخدم الأموال المتبقية في الصندوق لمواجهة أزمة الطاقة الحالية، بدلا من الديون الجديدة المشتركة للاتحاد الأوروبي.
وهذا يعني إدراكا من ألمانيا أكبر قوة اقتصادية في أوروبا أن فكرة مواصلة الأوروبيين الاستدانة والاقتراض باتت تمثل خطرا حقيقيا على مسيرة الاقتصاد الأوروبي.
والضغوط الاقتصادية الراهنة تضع مزيدا من الأحمال على كاهل حكومات الدول الأوروبية، بحيث يبدو أن الجميع سيكون في خطر بدرجات متفاوتة إذا ما انفجر الوضع الاقتصادي، فالأسواق المالية الأوروبية تستعد لرحلة صعبة قد يتحول عنوانها الرئيس من خطر التضخم في الوقت الراهن إلى كارثة الديون في الفترة المقبلة.

الأكثر قراءة