قصة السفر بلا مسافرين .. رحلات أشباح وأزياء فضائية
يسأم مجلس الخليفة الذي قربه إليه. عيناه الثاقبتان يتطلعان دوما إلى الأسقف، رغم علوها يراها منخفضة فيخرج إلى السماء حيث الفضاء الأوسع، لا يكتفي وهو عالم الفلك بحركة النجوم والكواكب، بل يفكر كيف يجعل بلاده الأندلس درة الحضارة الإسلامية، في وقت كانت بغداد تتغنى بحركة الترجمة وابن طولون يستعد لتشييد مبانيه الخالدة في القاهرة، ودمشق تحتضن الخليفة الأموي ويجري من حوله الزرع والأنهار.
لم يكن أبو القاسم عباس بن فرناس، ذو الأصول المغربية، يعلم أن تفكيره في تلك الليلة التي راقب فيها حركة الطيور، سيهديه إلى التقليد فيقرر تغطية جسده بالريش والقفز من أعلى قمة جبل أملا في التحليق، ولم يكن يعلم أيضا أن تلك المحاولة الفاشلة التي حاولها في 860 ميلاديا، ستصير الأشهر بعد أن تحولت إلى نواة رئيسة لاختراع الطائرة، وظهور قطاع الطيران الذي وصل حجم اقتصاده في 2020 إلى 419 مليار دولار بحسب الاتحاد الدولي للنقل الجوي.
وبحسب المصادر التاريخية، فإن تحويل حلم "ابن فرناس" إلى حقيقة استغرق أكثر من ألف عام، كثرت فيها المحاولات التي اعتمدت كلها على مراقبة حركة الطيور كما فعل العالم الإسلامي، لكن النتيجة النهائية جاءت على يد الأخوين رايت "ويبلور" و"أوربل" حين تمكنا أخيرا من حل مشكلات التوجيه والارتفاع لتظهر أول طائرة فعلية إلى النور، وقد باعاها لوزارة الدفاع الأمريكية مقابل 25 ألف دولار في 1908.
منذ ذلك التاريخ، تطورت صناعة الطائرات وتنوعت بين عسكرية ذات أغراض حربية، ومدنية، والنوع الأخير حرصت الدول على الحفاظ عليه حتى في أصعب الأوقات، نظرا إلى كونه أصبح الشريان الرئيس لحركة التجارة، فضلا عن كونه قطاعا يجلب مليارات الدولارات سنويا، يؤكد ذلك ما فعله هتلر في 1943، فبحسب وثائقيات الحرب العالمية الثانية، فإن الفوهرر - وتعني القائد بالألمانية - أصدر قرارا لتأمين حركة السفر من وإلى ألمانيا، حيث حرست الطائرات المدنية بأخرى عسكرية، لذلك لم يكن غريبا أن ينظر مسافر عادي من شباك طائرته فيجد مدفعا بالقرب من نافذته.
لم يكن هتلر وحده من تصرف هكذا، فبعد نحو ثمانية عقود، كان العالم على موعد مع قرارات أكثر غرابة، وتحديدا منذ كانون الأول (ديسمبر) 2019 حين ظهر فيروس كورونا لأول مرة في مدينة ووهان الصينية، وباتت كل دولة مطالبة بعزل نفسها عن الوجود لتأمين صحة مواطنيها، وبالطبع كان أكثر الضحايا هو قطاع الطيران الذي وصلت أرباحه في العام نفسه إلى 840 مليار دولار، بحسب اتحاد النقل الجوي "إياتا"، لكن هذا القطاع وجد نفسه أمام خيارين، إما التوقف التام وإما تسيير طائرات فارغة من الركاب.
ورغم عبثية الخيار الأخير لكن هذا ما نفذته الشركات الأوروبية وعلى رأسها "لوفتهانزا" الألمانية، إذ سيرت طائراتها في السماء فارغة للمحافظة على تعاقداتها وجداولها الزمنية، وهو ما فعله غيرها من دول القارة العجوز حتى أطلق على تلك الطائرات "رحلات الأشباح" لخلوها من الركاب، وقد قامت خلال ستة أشهر من 2020 بتسيير ألف رحلة بحسب منظمة السلام الأخضر التي انتقدت ذلك التصرف وعدته كارثة بيئية يجب التصدي لها.
تحسنت الأحوال قليلا بعد ذلك بظهور بعض اللقاحات التي حاصرت انتشار كورونا، إضافة إلى فصل الصيف الذي تقل فيه الإصابات، ومن هنا كان على شركات الطيران التحليق مرة أخرى وقد صحبت العودة قرارات غريبة صيغت جميعها تحت عنوان "للوقاية وتقليل فرص الإصابة"، وكان أبرز ما تم اختفاء الوجبات الساخنة من على متن الطائرات والاكتفاء بالمعلبات فقط، أما شركات "إيزي جيت" والخطوط الجوية الهولندية ودلتا الأمريكية، فأعلنت منع خدمة المشروبات الكحولية نهائيا للحفاظ على صحة المواطنين.
وبعيدا عن التأخيرات التي أضحت سمة الطائرات في زمن كورونا، كان الإيطاليون على موعد مع غرابة من نوع آخر بعد أن فتكت بهم الجائحة، إذ حرمت شركات الطيران الإيطالية المسافرين على خطوطها من استعمال المقصورة المخصصة لوضع الأمتعة الصغيرة فوق المقاعد، وهي أكثر الأماكن طلبا داخل الطائرة، إذ عدت السلطات أن ذلك يقلل من خطر انتشار كوفيد - 19، أما الأمريكيون فكانوا أمام قرار مشابه بعد أن أعادت الطائرات المقعد الأوسط على متنها واشترطت أن يظل فارغا كإجراءات للتباعد، وكان هذا المقعد تم إلغاؤه في كثير من الخطوط في أعوام ما قبل الجائحة.
ومع استمرار نزيف أموال المسافرين بارتفاع أسعار التذاكر، يزعم موقع فلايت رادار 24، بأن بعض شركات الطيران تدرس إقامة فواصل زجاجية بين الركاب، وإيجاد فقاعات شفافة حول رؤوس المسافرين في مشهد شبيه بأزياء عصر الفضاء. ووسط توقعات بتعافي قطاع الطيران تماما في 2023، أطلق صندوق الاستثمارات السعودي شركة " آفي ليس" لشراء الطائرات وإعادة تأجيرها لتدخل مجال المنافسة بقوة مستهدفة نمو الناتج المحلي غير النفطي، ولجذب 100 مليون سائح في 2030، وبعد إعلان المهندس صالح الجاسر، وزير النقل، مطارا جديدا في الرياض، هل ستحلق المملكة قريبا لتستعيد الريادة العربية وتجعل من العاصمة درة العواصم كما حلم يوما ابن فرناس؟