شركات الاقتصاد التشاركي .. هل تعود مجددا؟
بسبب الأزمة المالية عام 2008 وما نتج عنها من اختلالات اقتصادية وانهيارات مالية على مستوى المؤسسات والأفراد على حد السواء، ظهرت هناك عدة نماذج تجارية وابتكارات استثمارية وحلول متنوعة، كوسائل لتحقيق عوائد عالية للمستثمرين، وكذلك لتحقيق مصادر دخل جديدة لكثير من الأفراد الذي خسروا وظائفهم، أو أولئك الذين يودون رفع مداخيلهم الشهرية من خلال مصادر دخل إضافية.
من أبرز التطورات في ذلك الوقت ما شهدناه على صعيد ما يعرف بأنشطة الاقتصاد التشاركي، أو الاقتصاد التعاوني، الذي من خلاله ظهرت خدمات جديدة أخذت طابع المشاركة في الأصول، سواء السيارات أو المعدات أو أماكن السكن أو مساحات العمل أو القوى العاملة أو حتى المشاركة المالية.
فكرة أنشطة الاقتصاد التشاركي
يحتاج كل إنسان على الأرض إلى عدة موارد مختلفة لممارسة حياته، من مسكن ووسيلة نقل وغيرها من الإمكانات، إلا أن هذه الموارد لا يتم استخدامها طوال اليوم، وبالتالي فهي تعد أصولا غير مستغلة بشكل فعال. ومع تزايد أعداد السكان في كل مكان، بدا واضحا أن هناك استنزافا للموارد المتاحة، وبالتالي هناك حاجة إلى إعادة استغلال تلك الأصول المعطلة بشكل تشاركي. بحسب دراسات قام بها معهد بروكينج فإن السيارات الخاصة، على سبيل المثال، تستخدم فقط 5 في المائة من الوقت طيلة عمرها الافتراضي، كما أن هناك مساحات كبيرة خالية سواء في المنازل أو في مقار العمل من الممكن الاستفادة منها بتأجيرها للآخرين.
تلك المساحات غير المستغلة في المنازل تعد هدرا للموارد العقارية، يمكن من خلال إعادة تأجيرها لأطراف أخرى استفادة ملاكها من قيمها الإيجارية، واستفادة المستأجرين من الحصول على عقار رخيص نسبيا، حيث يقدر أن نسبة التخفيض التي يحصل عليها المستفيدون من الغرف المنزلية المتاحة للتأجير بين 30 إلى 60 في المائة، مقارنة بأسعار الفنادق. وقد ارتفع حجم الاقتصاد التشاركي من 15 مليار دولار في عام 2014 إلى 113 مليار دولار في العام الماضي، ومن المتوقع نموه إلى 600 مليار دولار في 2027، بمعدل نمو مركب 32 في المائة.
أنواع الاقتصاد التشاركي
يشمل مصطلح الاقتصاد التشاركي عدة أنظمة تحت مظلته، بينها الاقتصاد التعاوني والمقصود به تداول الموارد والأصول السلعية والخدمية لتأجيرها بين المستهلك والمالك من خلال وسيط، واقتصاد الند بالند peer-to-peer وفيه يتم التعامل مباشرة بين فرد وآخر عبر وسيط إلكتروني. وهناك منصات العمل الحر أو العمل بالقطعة التي يقدم من خلالها الأفراد خدماتهم بنظام المشاريع وليس الدوام الكامل، ونموذج العمل المشترك، وفيه يقدم أشخاص مساحة عمل مشترك ليتحمل المشاركون تكلفة المرافق والإيجار وغيرها معا، ومن بين الأشكال التشاركية الأخرى، التمويل الجماعي وفيه يسهم عدد من الأشخاص - وليس فردا واحدا - في عملية التمويل لفرد أو كيان ما.
الآثار الإيجابية والسلبية للاقتصاد التشاركي
استطاع الاقتصاد التشاركي إعادة استخدام الأصول المتاحة فعليا في عدة مجالات، فعلى سبيل المثال في مجال النقل العام استطاعت شركة أوبر وحدها تحقيق إيرادات بنحو 26 مليار دولار خلال عام 2021 نتيجة استغلال السيارات الخاصة في النقل والتوصيل، وذلك من خلال 6.4 مليار رحلة خلال العام، كما استفادت منها كثير من الدول في صورة الضرائب المحصلة التي بلغت 492 مليون دولار، وفي تخفيف حدة البطالة، حيث يبلغ عدد موظفي "أوبر" نحو 33 ألف موظف.
يسهم الاقتصاد التشاركي كذلك في استغلال الوقت، فبعيدا عن حساب المكاسب المباشرة من إعادة استخدام الأصول، فإن عملية التشارك في حد ذاتها تساعد على الإنجاز والإنتاجية، حيث إن التشارك في وسائل النقل يؤدي إلى التوفير في عدد المركبات على الطرقات والحد من الازدحامات المرورية، علاوة على سرعة الحصول على سيارة أو مسكن في أي مدينة، إلى جانب المرونة لدى العاملين في اختيار أوقات العمل المناسبة لإتاحة استئجار هذه الموارد. كما أن الاقتصاد التشاركي يساعد في الحفاظ على البيئة، من خلال إعادة استغلال الأصول عدة مرات، فمثلا استخدام سيارة واحدة من قبل عدة أطراف يؤدي إلى توفير في استهلاك الوقود.
وفي المقابل هناك جوانب سلبية وتحديات تواجه أنشطة الاقتصاد التشاركي، منها وجود منافسات غير عادلة ومخالفات نظامية، حيث يشار إلى تجاوز المشاركين في الاقتصاد التشاركي بعض الضوابط المنظمة لأعمالهم، وبعدهم عن أعين الرقابة الحكومية، وتجنب دفع بعض الرسوم التي يدفعها العاملون النظاميون. يشار إلى أن هناك انخفاضا في الحصة السوقية لسيارات التاكسي في نيويورك ما بين 2014 إلى 2018، من 37 إلى 6 في المائة، بسبب وجود خدمات النقل والتوصيل من شركات مثل أوبر، وكذلك هناك تأثيرات ملحوظة لإيرادات الفنادق في المدن الأمريكية الكبرى بسبب شركة الضيافة "إير بي آند بي" ومثيلاتها من الشركات.
حكومات قلقة من تأثير الاقتصاد التشاركي في الإيرادات الضريبية
يكمن التخوف من مزاولة بعض أنشطة الاقتصاد التشاركي في بعدها عن أعين سلطات الضرائب، ما دفع مكتب الإحصاء في المملكة المتحدة إلى دراسة تأثير هذا النوع من النشاطات في الناتج المحلي، حيث تبين عند تقدير المكاسب الاقتصادية لخمسة قطاعات تشاركية بينها النقل والتمويل والإقامة في الاتحاد الأوروبي أنها تعادل 572 مليار يورو من الاستهلاك السنوي، وهي قيمة مرتفعة جدا، ومن الصعب استخلاص حجم الضرائب المتعلقة بها. على سبيل المثال يتطلب حساب ضريبة دخل الفرد الواحد الإلمام بجميع الدخول والتكاليف المتعلقة به خلال فترة زمنية معينة، وتكمن المشكلة في عدم توحيد بيانات الشخص لدى جميع المنصات.
عشوائية معايير الأجور والتأمينات لدى المنصات التشاركية
أحد أقوى التحديات الأخرى التي يقع تحتها الاقتصاد التشاركي هو انعدام الأمان الوظيفي، فهناك ما بين 60 إلى 94 مليون شخص في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يعملون بشكل مستقل، وهذا العدد الكبير لا يعمل بشكل منتظم ويفتقد مزايا التأمين الصحي والضمان الاجتماعي، وأحيانا تكون إيراداته أقل من الحد الأدنى للأجور. تواجه شركة أوبر عددا من التشريعات القانونية في ولاية كاليفورنيا وفي بريطانيا بشأن اعتبار السائقين لديها موظفين دائمين، وبالتالي استحقاقهم الحد الأدنى للأجور، إلى جانب مزايا وظيفية أخرى. مثل هذه القرارات ستؤدي إلى ارتفاع مؤكد في التكاليف مقابل نمو غير مؤكد في الإيرادات، وبالتالي انخفاض محتمل للأرباح أو ربما التحول إلى خسائر لهذه الشركات.
تحديات أخرى تواجه الاقتصاد التشاركي منها على سبيل المثال الأنشطة المتعلقة بالتمويل التشاركي، فعند إتمام مثل هذه العمليات دون وسيط مالي موثوق أو ضامن حكومي، قد ينتج عن ذلك عمليات احتيال مالي، كما أن منصات تشارك الأطعمة والملابس قد تفتقد السلامة الصحية، وقد تكون سببا رئيسا في انتشار الأمراض، إلى جانب تخطي سيارات النقل والتوصيل، كما ذكرنا، بعض الأنظمة الحكومية مثل إصدار التراخيص اللازمة.
مجال النقل والتوصيل
النقل هو أحد القطاعات الأعلى شهرة من بين من طبق فكرة الاقتصاد التشاركي، حيث تصل سوقه العالمية إلى أكثر من سبعة تريليونات دولار، وأشهر العاملين في هذا المجال شركة أوبر الأمريكية التي انطلقت عام 2009 وأصبح لديها أكثر من 118 مليون مستخدم نشط في الشهر، بعدد رحلات سنوية تجاوز ستة مليارات رحلة. يعمل عبر تطبيق أوبر أكثر من أربعة ملايين سائق في أكثر من عشرة آلاف مدينة حول العالم. وعلى مستوى الشرق الأوسط كان لشركة كريم التي أُطلقت في عام 2012 من الإمارات انتشار واسع في نحو مائة مدينة ونحو مليوني سائق، ومن ثم تم الاستحواذ عليها من قبل "أوبر" في عام 2019 بقيمة 3.1 مليار دولار.
وفي مصر هناك شركة "سويفل" المصرية، المدرجة في بورصة ناسداك، التي تواجه تحديات قد تخرجها من البورصة في حال ظل سعر سهمها أقل من دولار، حيث كانت قيمة الشركة السوقية عندما اندمجت مع "كوينز جامبيت" 1.5 مليار دولار في يوليو 2021 قبل أن تتدهور قيمتها الآن إلى 79 مليون دولار. ويعود السبب في تدهور أوضاعها إلى عدة أمور، بينها التقييم المبالغ فيه للشركة وارتفاع النفقات التشغيلية الذي بسببه سرحت الشركة نحو ثلث موظفيها، وقد بلغت إيراداتها فقط 38 مليون دولار العام الماضي، مقابل توقعات بمقدار 79 مليون دولار.
من بين شركات النقل والتوصيل الكبرى هناك شركة "ليفت" الأمريكية التي تستحوذ على 32 في المائة من السوق الأمريكية للنقل التشاركي، وتبلغ قيمتها السوقية 4.7 مليار دولار، إلا أنها تعاني انخفاض عدد مستخدميها الذي بلغ 19 مليون مستخدم خلال العام الماضي، مقارنة بـ23 مليون مستخدم في 2019، ما أدى إلى تراجع إيراداتها 11.3 في المائة خلال الفترة نفسها.
على المستوى الأوروبي هناك تطبيق فرنسي يدعى "بلا بلا كار" يعمل على النقل عبر السيارات والحافلات، انطلق قديما في 2006 وتضاعف عدد مستخدميه إلى مائة مليون مستخدم في أكتوبر من العام الماضي. وقد استطاعت الشركة جمع تمويل أخير بقيمة 115 مليون دولار لتعزيز نموها خارج أوروبا، في حين يقيم البعض الشركة بنحو مليار دولار. وفي قارة آسيا تطبق شركة "ديدي" الصينية فكرة النقل التشاركي، حيث استطاعت الشركة الاستحواذ على "أوبر" الصين في 2016، وتبلغ قيمتها السوقية الحالية نحو 8.1 مليار دولار، ولديها عدد كبير من المستخدمين يقارب نصف مليار مستخدم، و15 مليون سائق بإجمالي عشرة مليارات رحلة، في حين سجلت إيراداتها خلال الـ12 شهرا الأخيرة أكثر من 24 مليار دولار.
شركة Airbnb تستحوذ على ربع السوق بمتوسط 10 حجوزات كل ثانية
من بين قطاعات الاقتصاد التشاركي الشهيرة هناك قطاع الضيافة والسكن، الذي يعتمد على السياح والمسافرين، حيث يبلغ إجمالي سوق السياحة في عام 2021 نحو 1.3 تريليون دولار، ومن المتوقع أن يصل إلى 1.7 تريليون دولار العام الجاري. وقد بلغ حجم سوق تأجير العقارات خلال العام الماضي نحو 2.2 تريليون دولار ومن المتوقع أن ينمو خلال العام الجاري بمعدل 9.6 في المائة.
هذه القيم الضخمة أغرت كثيرين بالعمل كوسطاء بين الباحثين عن مسكن وبين ملاك المساكن، فظهرت هناك شركة Airbnb كمنصة وتطبيق إلكتروني لتقديم هذه الخدمة، ولديها حاليا 200 مليون مستخدم نشط، بإجمالي 300 مليون حجز في عام 2021، لتقتطع بذلك حصة سوقية عالمية بنسبة 26 في المائة، وبذلك تأتي بعد شركة "بوكينج" المسيطرة بحصة تقارب 35 في المائة.
من بين العاملين في المجال نفسه، هناك شركة "ڤربو"، التي تم تأسيسها في 1995، واستحوذت عليها "هوم أوي" في 2006 ومن ثم استحوذت عليهما مجموعة "أكسبيديا" في نهاية 2015. ويقدر عدد مستخدمي ڤربو النشطين بنحو 48 مليون مستخدم، وتستحوذ المنصة على أكثر من 5 في المائة من السوق، وقد حققت إيرادات تخطت ملياري دولار خلال 2021 ويمثل ذلك أكثر من 23 في المائة من إيرادات المجموعة الأم التي تعتزم التوجه أكثر نحو التجارة الإلكترونية. كذلك هناك منصة أخرى تعرف بـ"فليب كي"، وهي منصة تابعة لشركة السفر الأمريكية Trip Advisor التي تبلغ قيمتها السوقية 3.3 مليار دولار، ومتوسط زيارات "فليب كي" نصف السنوي يبلغ نحو 187 مليون زيارة و300 ألف مضيف، وتقدر أرباحه بنحو 70 ألف دولار.
SoFi تتألق في الخدمات المالية وتضاعف إيراداتها 5 مرات في 4 أعوام
لم تتوقف خدمات الاقتصاد التشاركي على قطاعي النقل والتسكين فحسب، بل دخلت في عديد من القطاعات الأخرى، كقطاع الخدمات المالية الذي من أشهر لاعبيه شركة "صوفاي" الأمريكية المتخصصة في التمويل الشخصي بما في ذلك الرهن العقاري وقروض الطلاب وإدارة النقد، حيث تضاعفت إيراداتها في 2021 بنحو خمسة أضعاف حجمها في 2018، وقد حققت الشركة نموا في أعداد المستخدمين ليبلغ نحو 3.5 مليون مستخدم في الربع الأخير من العام الماضي، في حين بلغ إجمالي منتجاتها التي قدمتها من قروض واستثمارات ونقد فوري وغيرها 5.2 مليون منتج خلال الفترة.
في عالم التجزئة أرباح "إي باي" تتخطى إيراداتها
في قطاع التجزئة بين الأفراد تعد شركة "إي باي" eBay من أقدم منصات الاقتصاد التشاركي، حيث تتيح للمستخدمين إعادة بيع السلع والخدمات من خلال عروض مزادات وبأسعار تنافسية، وقد انضمت الشركة إلى بورصة ناسداك في 1998، ولديها 138 مليون مستخدم نشط ونحو 18 مليون بائع عالميا، ونصف مليون سلعة معروضة على موقعها. تم تداول بضائع بحجم 87 مليار دولار خلال 2021 عبر المنصة التي تستحوذ على 4.7 في المائة من سوق تجارة التجزئة الأمريكية، وبلغت إيراداتها الخارجية أكثر من 50 في المائة من إجمالي الإيرادات التي لا تزال أعلى من عشرة مليارات دولار على مدار كل من الأعوام الخمسة الماضية، مع تمتع الشركة بربحية عالية.
"دليفروو" تتفوق في قطاع التوصيل .. و"مرسول" النسخة الرائدة عربيا
من النقل والضيافة إلى التوصيل، حيث استطاعت منصة دليفروو البريطانية المؤسسة منذ نحو عشرة أعوام أن تنطلق في سوق توصيل الطعام ما بين المطاعم والمشترين، حيث بلغ عدد مستخدمي المنصة ثمانية ملايين نشط شهريا بنهاية عام 2021، مقابل 160 ألف مطعم متاح عليها، وتنتشر في 800 مدينة حول العالم. شبيه هذه المنصة على المستوى المحلي هناك تطبيق "مرسول" في المملكة، الذي أطلق عام 2015، ويتميز بأنه وسيلة لتوصيل أي سلعة، ولديه نحو عشرة ملايين مستخدم، و150 ألف مندوب خدمة.
الخاتمة
لا يزال المجال كبيرا أمام الأنشطة المتعلقة بالاقتصاد التشاركي، الذي يمر بمراحل تطور ونضج على جميع المستويات القانونية والفكرية والاجتماعية، وقد مر بموجة سريعة وثرية من النمو والازدهار، إلا أن معظم أسهم شركات الاقتصاد التشاركي لم ترتفع كما هو متوقع لها في الأعوام القليلة الماضية، وقد واجهت انخفاضات حادة منذ بداية 2022. وبحسب دراسات الحوكمة في معهد بروكينج، من المتوقع أن يصل حجم الاقتصاد التشاركي في 2025 إلى 335 مليار دولار.