بين تحديات وفرص كامنة .. بندول التاريخ يتأرجح بعيدا عن العولمة

بين تحديات وفرص كامنة .. بندول التاريخ يتأرجح بعيدا عن العولمة
بين تحديات وفرص كامنة .. بندول التاريخ يتأرجح بعيدا عن العولمة

لن أنسى أبدا مقابلة أجريتها قبل أعوام مع الراحل ريتشارد ترومكا، الذي كان حينها رئيس الاتحاد الأمريكي للعمال وكونجرس المنظمات الصناعية، أكبر اتحاد عمالي في أمريكا. أخبرني ترومكا، عامل مناجم فحم سابق صارم في بنسلفانيا تحول إلى محام، عن محادثة أجراها في التسعينيات مع مسؤول في إدارة كلينتون حول تداعيات اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، التي تم التصديق عليها في 1993، والتأثير المحتمل لدخول الصين نظام التجارة العالمي.
كان ترومكا قلقا بشأن التدفق المفاجئ للعمالة الرخيصة في السوق العالمية، وتأثير ذلك في مداخيل العمال الأمريكيين وحياتهم. "أخبرت المسؤول أن الصفقات ستقتلنا، ووافقني الرأي". لكن المسؤول قال إنه بعد فترة، "ستبدأ الأجور الارتفاع مرة أخرى، وستتساوى الأمور حول العالم". عندما سأله ترومكا عن المدة التي قد تستغرقها عملية "المساواة" هذه، أجاب، "من ثلاثة إلى خمسة أجيال".
ثلاثة إلى خمسة أجيال. هذا قرن من الزمن في حياة المجتمعات والأشخاص المعنيين. إذن هل من الغريب أن العامل الأمريكي العادي، بشكل مشابه لأولئك الموجودين في كثير من الدول الغنية، قد بدأ التشكيك في العولمة؟ أم أن القومية والشعبوية آخذتان في الارتفاع؟ في 2011، جادل داني رودريك، الأستاذ في جامعة هارفارد، أحد الاقتصاديين الرئيسين القلائل الذين تحدوا الحكمة السائدة في مهنته في الأعوام الأخيرة، "الديمقراطية، والسيادة الوطنية والتكامل الاقتصادي العالمي تتعارض بشكل متبادل، يمكننا الجمع بين أي اثنين من الثلاثة، لكن لن نحصل على الثلاثة معا بشكل متزامن وكامل أبدا".
اليوم، من الواضح أن بندول التاريخ يتأرجح بعيدا عن التكامل الاقتصادي العالمي. بعض التغييرات المصاحبة لهذا، بداية من فوضى السوق إلى الحروب التجارية حتى الحروب الحقيقية، مثيرة للقلق للغاية. لكن بعيدا عن العناوين الرئيسة المباشرة والمثيرة للقلق، هناك تحديات وفرص على حد سواء. وفيما يلي دليلي إلى عصرنا الجديد.
حتى وقت قريب جدا، كانت فكرة أن رأس المال والبضائع والأشخاص قد لا يواصلون السفر بسلاسة عبر الحدود بدعة. كما قال الرئيس السابق بيل كلينتون خلال خطاب ألقاه في 2000، "السؤال ليس ما إذا كانت العولمة ستستمر، بل كيف ستستمر؟".
لكن قبل فترة طويلة من تفشي الجائحة أو الأزمة الروسية الأوكرانية، كانت مجموعة من التحولات - الديموغرافية، والجيوسياسية والتكنولوجية - تحرك العالم بعيدا عن العولمة ذات الحجم الواحد الذي يناسب الجميع، نحو عالم أكثر ابتداعا من صنع السياسات الاقتصادية ونماذج الأعمال الأكثر ملاءمة للمصالح المحلية. إن موجة الابتكار التكنولوجي تتيح نقل الوظائف والثروة إلى عدد أكبر بكثير من الأماكن. الموظفون والناخبون من جيل الألفية يدفعون السياسيين وكبار رجال الأعمال على حد سواء إلى التفكير في الاستدامة المحلية بدلا من مجرد النمو العالمي.
يشعر بعض الناس أنه لا توجد أرضية وسط بين العولمة المفرطة غير المقيدة على غرار التسعينيات والقومية "أو حتى الفاشية" التي سادت في الثلاثينيات. لكن كان هناك دائما توازن متغير بين المصالح الوطنية وتلك العالمية، يؤدي كثير من العولمة المفرطة إلى الحمائية أو ما هو أسوأ. وكثير من القومية يعني أن كثيرا من الناس يفقدون الثقة بالنظام.
إننا ندخل اليوم حقبة جديدة من التوطين. هذا لا يعني أن كل الأمور العالمية ستتلاشى. بل على العكس تماما - تحتاج الشركات، وصناع السياسات والمجتمع بأكمله إلى زيادة التركيز قليلا على المستوى المحلي لضمان استمرار الانخراط في العولمة. ستستمر الأفكار والمعلومات في التدفق عبر الحدود "على الرغم من أنه ستكون هناك قيود على ذلك اعتمادا على الاختلافات الجغرافية في أنظمة الخصوصية والبيانات"، حيث يصبح الاقتصاد العالمي أكثر رقمية من أي وقت مضى. كما أن رأس المال سيكون متنقلا، على الرغم من أنه من غير المحتمل أن يكون غير مقيد تماما كما كان في الماضي. سيكون هناك مزيد من القيود على ما يمكن أن تفعله المؤسسات المالية في الديمقراطيات الليبرالية لتمويل الحكومات الاستبدادية أو تقويض الرفاهية الاقتصادية للمواطنين في دولهم الأصلية، كما ينبغي أن يكون هناك. ستكون هناك أيضا إعادة تفكير في قواعد التجارة، وحقوق العمال، وكيفية احتساب كل من تكاليف ومزايا النمو الاقتصادي في البيانات التي يستخدمها صناع السياسات لتشكيل عالمنا.
قبل بضعة أعوام، أجريت مقابلة مع كبير مساعدي عضو مجلس شيوخ ديمقراطي كبير أخبرني بدهشة عن الشعور باليقين الذي كان موجودا داخل الحزب، أن المناطق الريفية والمواقع منخفضة الكثافة ببساطة لا تستحق التفكير فيها سياسيا. قال المساعد، "أتذكر مرة في 2016، خلال حديث مع صديق في البيت الأبيض كان يسافر ويشهد على كثير من حالات الفقر في المناطق الريفية في أماكن مثل آيوا وفيرجينيا. "أخبرني، لا تقلق. توصلنا إلى حل لهذا الأمر. أتممنا النماذج، واتضح أنه من الأرخص دفع المال إلى الناس للانتقال إلى أفضل 50 مدينة بدلا من محاولة إيجاد فرص عمل في أماكن سكنهم".
الازدراء المتأصل في هذه العبارة، التي افترضت أن مفهوم المكان والمنزل غير مهم، لم يكن إهانة فحسب، بل خاطئا سياسيا "تم انتخاب ترمب في المناطق الريفية، ولم يعد الناس يهاجرون حول الولايات المتحدة كما فعلوا من قبل". لكن كل من الطرفين الآن يقدر أهمية المكان. بعد عقود من الاتجاه المتمثل في "الفائز يأخذ كل شيء"، حيث تمركز معظم الازدهار في عدد قليل من المدن والشركات، لنأمل أن الشركات وصناع السياسة سيكونون أكثر تركيزا على ضمان إعادة ترسيخ الثروة والمكان.
سيأتي ذلك مصحوبا بتكاليف - مثل التضخم. كانت نماذج "الكفاءة" القديمة، التي افترضت أن الناس والبضائع ورأس المال ستنتقل بسلاسة إلى أي مكان في حاجة إليها، رخيصة. سيتطلب إيجاد مزيد من الفرص في المنزل، مع الاستمرار في الارتباط بالاقتصاد العالمي، بناء نماذج أكثر مرونة - تتضمن تعليما أفضل، وبنية تحتية، وأجورا محلية أعلى، وتركيزا أقل على الأرباح قصيرة الأجل. كانت الكفاءة رخيصة. المرونة ستكلف مزيدا من الأموال. من يدفع ثمنها متاح.
لكن ستكون هناك أيضا فرص في الانتقال من الكفاءة إلى المرونة. الولايات المتحدة وبعض دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأخرى التي تحركت بعيدا جدا نحو اقتصاد مدفوع بالدين وخاضع لنمو أسعار الأصول، لديها فرصة لإعادة التوازن والتركيز بشكل أكبر على إيجاد فرص عمل متوسطة الدخل. في الوقت نفسه، لدى الصين فرصة لبناء نظامها البيئي الإقليمي الخاص بها وتصحيح الاختلالات التي نتجت عن رأس المال الرخيص لصفقة العمالة الرخيصة بين آسيا والغرب.
على مدى نصف القرن الماضي، ترسخت فكرة مفادها بأن اختلاف الأنظمة السياسية، والقيم والمصالح الوطنية كانت أقل أهمية من قوى السوق. لكن فجأة، وسط الجائحة، كان من المهم أن تحصل الولايات المتحدة على أغلبية الأقنعة الطبية الرخيصة والمكونات الصيدلانية الرئيسة من أكبر خصم جيوسياسي لها، الصين. كان من المهم أن الناخبين في كثير من الأحيان لم يتصرفوا بالطريقة التي توقعتها النماذج. تذكر مفاجآت بريكست؟ أو انتخاب دونالد ترمب؟
الخبر السار أن جميع هذه التطورات أوصلت أخيرا رسالة مهمة. إذا أردنا حل أكبر مشكلات العالم - بداية من تغير المناخ إلى التفاوت في الثروة - علينا أن نبدأ في التفكير خارج الصندوق الأسود للاقتصاد التقليدي، وننظر إلى العالم بطريقة أكثر واقعية وشمولية، والاستفادة من التخصصات الأخرى مثل علم الأعصاب، والأنثروبولوجيا، والبيولوجيا، والقانون والأعمال. انظر، مثلا، في الافتراض الاقتصادي الشائع، إنه لا يهم مكان وجود الوظائف، طالما كانت متاحة، لأن الناس سينتقلون إليها ببساطة. لكن كما قال الأكاديمي في جامعة هارفارد، جوردون هانسون، أحد الشخصيات في هذه الحركة لإعادة تصور رأسمالية السوق الحرة، "عندما يفقد العمال الذين ليس لديهم شهادة جامعية وظائفهم، يختار قليل منهم الانتقال إلى مكان آخر، حتى عندما تكون ظروف السوق المحلية سيئة". أحد أسباب ذلك هو أنهم يعتمدون على الروابط الأسرية والمجتمعية في المكان لمساعدتهم في الأوقات العصيبة. يقوم هانسون وزملاؤه ببناء نماذج محلية جديدة لكيفية حدوث النمو الاقتصادي في المناطق المختلفة.
تعد هذه اللغة الرسمية للدولة الصينية فيما يتعلق بحقيقة أن الإنتاج والاستهلاك سيتم جمعهما بشكل أوثق في كل مكان في المستقبل. أعلنت الصين منذ عدة أعوام أنها تريد أن تكون سلاسل التوريد الخاصة بها أكثر محلية، لعدد من الأسباب، بما في ذلك الهشاشة المرتبطة بخطوط الإنتاج بعيدة المدى. لقد كانت هذه الهشاشة تتجلى لبعض الوقت الآن داخل الشركات الغربية متعددة الجنسيات.
انظر إلى قضية طائرة بوينج 787 دريملاينر، التي واجهت تأخيرات وتجاوزات في التكاليف في أواخر العقد الأول من القرن الحالي بسبب سلسلة الإمداد المعقدة بشكل لا يصدق، التي تضمنت الاستعانة بمصادر خارجية بـ70 في المائة من الأجزاء المكونة للطائرة لعدد لا يحصى من الدول في جميع أنحاء العالم. تم اتخاذ هذه القرارات بعد اندماج شركة بوينج في 1997 مع شركة مكدونيل دوجلاس، وهي شركة ذات توجه مالي بشكل أكبر بكثير تركز على خفض التكاليف وتقليل المخاطر المالية. لكن في بعض الأحيان، فإن القرارات التي تنقل التكاليف خارج الميزانية العمومية تصنع مخاطر حقيقية في أماكن أخرى. علاوة على ذلك، يمكن بسهولة التلاعب بالنظام التجاري العالمي نفسه من قبل الدول التجارية والأنظمة الاستبدادية التي تديرها الدولة، ما يؤدي إلى انقسامات سياسية عميقة في الداخل والخارج.
تؤدي السياسات المتشعبة اليوم إلى مزيد من الأقلمة في القطاعات الأكثر استراتيجية، مثل أشباه الموصلات، والمركبات الكهربائية، والزراعة، والمعادن الأرضية النادرة. علاوة على ذلك، هناك تحولات أخرى جعلت الاستعانة بمصادر خارجية على مستوى العالم في بعض المجالات أقل فاعلية من حيث التكلفة. ارتفعت الأجور في آسيا، أصبحت الطاقة أكثر تكلفة، وتزايد اهتمام الشركات بمخرجات الانبعاثات الخاصة بها.
المحصلة هي أن وجود سلاسل إمداد عالمية بعيدة المدى أصبح أمرا أكثر تكلفة وتعقيدا. الصناعات ذات العمالة الرخيصة، ومنخفضة الهامش مثل الأثاث أو المنسوجات أصبحت إقليمية في كل مكان، حيث أصبح من الاقتصادي بشكل أكبر التصنيع للأسواق المحلية بدلا من نقل الأشياء إلى الولايات المتحدة أو أوروبا عبر بحر الصين الجنوبي. نمو التصنيع الإضافي أو "الطباعة ثلاثية الأبعاد"، التي يعتقد إريك شميدت، الرئيس التنفيذي السابق لشركة جوجل، أنها قد تكون ثورية في التصنيع مثل "آيفون" في السوق الاستهلاكية، يعني أنه يمكن تصنيع الآليات المعقدة، والسيارات حتى المنازل في الموقع.
أخيرا، يقود تغير المناخ عملية التوطين. بينما يتطلب إصلاح المشكلة رؤية عالمية، فإن الإجراءات العملية للوصول إلى هناك تكون محلية. تعد سلاسل الإمداد في الزراعة، والمنسوجات وبناء المنازل من أكثر سلاسل الإمداد تلوثا في العالم. الحجج الداعية إلى مزيد من الزراعة القائمة على المجتمع، أو وضع حد للأزياء السريعة، أو عدم إهدار الانبعاثات على عزل الحقائب أو الخرسانة أو البلاستيك في جميع أنحاء العالم واضحة. في حين يشعر البعض بالقلق من أن التحول سيكون مكلفا للغاية، وجد تحليل مجموعة بي سي جيه في 2021 أن مزيدا من شبكات الإنتاج المحلية ستضيف فقط 2 في المائة من هامش الربح على سيارة بقيمة 35 ألف دولار، أو 1 في المائة زيادة على سعر الهاتف الذكي، أو 3 في المائة أكثر مقابل منزل بقيمة 200 ألف دولار. هذا، إلى جانب تكنولوجيات البيانات الدقيقة التي تسمح بالتتبع الدقيق للغاية في سلاسل التوريد "يمكن لمتاجر التجزئة للمنسوجات الآن تحديد مصدر القطن وصولا إلى مزرعة أو حقل معين"، والمستهلك الشاب الموجه نحو شراء أشياء أقل، ذات الجودة الأفضل، سيشجع كلاهما مزيدا من التوطين ويساعدان الكوكب.
مع صعود حركة رأسمالية أصحاب المصالح، ونهضة العمالة المنظمة، ومجموعة جديدة من المنظمين الأمريكيين في لجنة التجارة الفيدرالية، ولجنة الأوراق المالية والبورصات، ووزارة العدل وفي البيت الأبيض، هناك تحول بعيدا عن رفاهية المستهلك إلى الرفاهية الوطنية للمواطنين. يدفع السياسيون الشركات إلى التفكير في تأثيرها في المجتمعات بأكملها، وليس المستهلكين فقط. يريد العملاء معرفة ما إذا كانت الشركات التي يشترون منها أصحاب مصالح محليين وعالميين وجيدين. في حقبة تكون فيها السياسة أكثر أهمية مما كانت عليه في نصف قرن، ستزدهر شركات الشارع الرئيس، وليست شركات وول ستريت.
هذا يعني أن القيم، التي تفرضها القوانين، ستبدأ في أن تكون أكثر أهمية. بينما أكد آدم سميث، أبو الرأسمالية الحديثة، أنه لكي تعمل الأسواق الحرة بشكل صحيح، يحتاج المشاركون إلى إطار أخلاقي مشترك، واليوم، يتكون الاقتصاد العالمي من عدد كبير من الدول ذات القيم والأنظمة السياسية المختلفة للغاية. مرتبطة ببعضها بعضا في اتفاقيات تمت صياغتها واعتمادها في كثير من الأحيان من قبل تكنوقراطيين عالميين وليس من المسؤولين المنتخبين. من المفارقة أن التحول نحو مصالح الأسواق العالمية أدى إلى نوع من القومية التي أراد مبتكرو مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية تجنبها.
لكن حتى تلك المؤسسات لم تكن أبدا في مصلحة أسواق رأس المال العالمية غير المنظمة. على غرار كل من كينز وماركس، يعتقد حايك، وهو أب "الليبرالية الجديدة" مثل أي شخص آخر، أن الأسواق لم تعد بالضرورة إلى التوازن. كان ينبغي أن تتحكم في "إطار" من شأنه أن يربط بين الرأسماليين ورجال الأعمال في جميع أنحاء العالم، ما يسمح لها بالطفو فوق المصالح الاشتراكية للعمال، أو فاشية الثلاثينيات من القرن الماضي. كما قال إرنست أولريش بيترسمان، أستاذ في القانون وأحد طلاب حايك، "نقطة البداية المشتركة للنظرية الاقتصادية النيوليبرالية هي الفكرة القائلة إنه في أي اقتصاد سوق يعمل بشكل جيد، يجب بالضرورة أن تكون" اليد الخفية "للمنافسة في السوق تكملها "اليد المرئية" للقانون". القانون يدور حول القيم، والدول والمناطق لها قيم مختلفة. بداية من رأسمالية المراقبة إلى مفاهيم قوة الشركات، فإن القيم والقوانين التي تطبقها ستشكل الأسواق بشكل متزايد.
في عالمنا الجديد الذي يتراجع عن العولمة، ستكون الدول التي يمكنها الاستفادة من قوة الشبكة لضمان حصولها على ما يكفي من الغذاء والوقود وطلب المستهلكين هي الأفضل حالا. من الواضح أن الولايات المتحدة هي الرائدة في هذا الصدد في الوقت الحالي. لكن في نظام غير تقليدي، سيكون بناء التحالفات هو المفتاح. من الشبكات المالية، إلى شبكات الإنتاج، إلى الشبكات الاجتماعية، فإن الشركات والدول التي تمتلكها أو تعمل مع الحلفاء لامتلاكها هي الأفضل. التكامل الرأسي بين الشركات، مثلا، يكتسب قوة مرة أخرى، حيث يتطلع القادة إلى منع اضطرابات سلاسل الإمداد، وخفض تكاليف النقل، وتقليل المخاطر الجيوسياسية. تقوم الشركات بداية من "جونسون آند جونسون" إلى "فولكس فاجن" إضافة إلى تجار التجزئة مثل "شانيل" أو "زيجنا" بنقل مزيد من عمليات الإنتاج داخل الشركات، وتحاول الحصول على مزيد من المواد الخام والتحكم فيها.
يتقدم إيلون ماسك على المنحنى، حيث أنتج معظم سيارات تسلا الخاصة به داخل الشركة بعد اكتشاف أنه كان من الصعب الابتكار والعمل مع أحدث التكنولوجيات في الوقت الفعلي عندما كانت سلاسل الإمداد بعيدة. في نهاية المطاف، التزمت "تسلا" بتوفير الموارد والابتكار محليا قدر المستطاع حول تكنولوجيا البطارية ونقل الحركة.
كما أن فصل العملة يمضي قدما، حيث إن استخدام الدولار كسلاح في أعقاب حرب أوكرانيا قد زاد من رغبة الصين في أن تصبح مستقلة عن النظام القائم على الدولار. في الواقع، فإن شعبية التكنولوجيات اللامركزية من جميع الأنواع آخذة في النمو. سيحل الإنتاج المحلي لطاقة الرياح والطاقة الشمسية محل أنظمة طاقة الوقود الأحفوري. كما أن تكنولوجيا البلوكتشاين وغيرها من الطرق اللامركزية لنقل البيانات ومشاركتها، على الرغم من أنها لا تزال قاصرة، ستتقدم وتنتشر.
إضفاء الطابع المحلي سيكون منطقيا ليس فقط كآفاق اقتصادية، بل كآفاق سياسية أيضا. مايكل جيه ساندل، فيلسوف سياسي وأستاذ في جامعة هارفارد، أوضح في كتابه الذي صدر في 1996 بعنوان "الاستياء من الديمقراطية"، سبب أهمية اللامركزية للديمقراطية. موجزا حجة وودرو ويلسون في 1912 ضد سلطات الاحتكار المركزية بجميع أنواعها، والتي كانت واحدة من عديد من النذر للتحولات الاقتصادية الهائلة في ثلاثينيات القرن الماضي، يقول: "استعادة الحرية تعني استعادة الاقتصاد اللامركزي الذي ولد مواطنين مستقلين ومكن المجتمعات المحلية من أن يكونو سادة مصيرهم، وليس ضحايا قوى اقتصادية خارجة عن سيطرتهم".
 هذا لا يلخص فقط المبدأ التأسيسي للدولة، بل التحدي الأساس للعصر الجديد - كيفية إعادة ربط الأسواق العالمية والقيمة التي تم إنشاؤها داخلها في الدول القومية.
 

الأكثر قراءة