الموظف المستجد في وقت الجد
يحضر الموظف إلى مكان عمله الجديد وهو في قمة حماسه. ولست أعني بالمستجد هنا حديث التخرج، فالوظيفة الجديدة لها دائما طعم مختلف، حتى لو كانت لموظف يملك الخبرة. ومن المتعارف عليه أن هناك مهارات خاصة لاستفتاح الوظائف الجديدة تقوم على مبادئ التكيف السريع والاندماج وتكثيف التعلم الخاص بمكان العمل، وبالتأكيد صنع الانطباع الإيجابي الأولي المهم جدا. لكن بعد مضي الأشهر القليلة الأولى، يبدأ الجد. فتظهر للموظف جودة توقعاته، قد يفاجأ بمصاعب لم يتوقعها أو قد يجد أن التحديات التي تخيلها غير موجودة، وربما هناك نوع جديد من التحديات لم يفكر فيه مطلقا. بل أحيانا يجد أن فهمه للتحديات الموجودة ضعيف، كلما يتصور الواقع بطريقة معينة تكشف له الأيام أن الحقيقة مختلفة وأن الوضع يتطلب نوعا مختلفا من التعامل. وهذا، طبيعي، لأن واقع الأعمال معقد، وتحديات الموظف تقوم على تجارب سابقيه الشخصية والتنظيمية والثقافية، لن يعرف حتى لو كان له أصدقاء في مكان العمل كل خبايا المكان قبل القدوم إليه.
تختلف أساليب الاستجابة إلى التحديات المكتشفة في الوظيفة الجديدة، وهناك عدد من السلوكيات السلبية التي تضع أكثر من علامة استفهام عند مواجهة هذه التحديات. أول ردود الفعل المستنكرة هي ظاهرة التقوقع والضمور، إذ تتقلص ردة فعل الموظف واستجابته كلما شعر بوطأة التحدي الجديد، وربما قال لنفسه الأفضل أن أتوارى عن الأنظار لعل الأمور تتضح شيئا فشيئا. وإن كان هذا أسلوبا مناسبا في بعض الحالات الصعبة جدا، لكنه أقرب لليأس من الحياة. لا تتطلع المنظمات وقيادتها إلى هذا النوع من الموظفين، فهي تبحث عمن يفهم ويحلل الواقع، ويقدم الحلول ويقدم على تنفيذها. التردد والانتظار والتجاوز من أشكال إخفاء الغبار تحت السجاد. وحسب طبيعة التحدي، هناك دائما عدد من الخيارات التي تقوم أساسا على فهم المشكلة والفهم يتطلب المعرفة الجيدة بالسياق والحدث وأريحية التعامل مع الأدوات الملائمة لهذه الحالة. وهذا يعني الاستفادة من الخبرة السابقة والتعلم السريع في غياب هذه الخبرة والاستفادة من الزملاء وأصحاب الخبرة. ولا يخفى القول إن التواصل الجيد حجر أساس في مثل هذه المواقف، فبه يؤكد الفهم وبه تزال الغشاوة وبه تذلل العقبات.
أما الطامة الكبرى عند مواجهة التحديات الجديدة في الوظيفة الجديدة فهي الهرب السريع، وهذه ظاهرة جديدة تستحق التوقف والانتباه. إذ يأتي الموظف الجديد من بيته وهو معدوم الخبرة أو من مكان آخر ببعض الخبرة فيجد خلال الستة أشهر الأولى أن الواقع صعب. والواقع دائما صعب، إذ إن الصعوبة هي مجرد توصيف لطبيعة أو حجم التحديات، ولا توجد بيئة عمل تخلو من ذلك. ثم يصبر لبضعة أشهر إضافية، وعند اقتراب العام الأول من الانتهاء تجده مشغولا بالمقابلات الشخصية! فإذا سألته قال إنه أنهى جولة من التحديات والآن هو بصدد اكتشاف تحد جديد. لا أعرف حقيقة ما التحديات التي تمكن من فهمها فضلا عن التحديات التي تمكن من معالجتها أو المشاركة في معالجتها. بكل تأكيد الفترة الزمنية ليست مقياسا دقيقا للإنجاز، لكنها مؤشر معقول جدا. هناك من ينجز في ستة أشهر ما ينجزه غيره في عامين، لكن لا يمكن أن نفهم كيف يمكن لقليل الخبرة تحقيق الإنجازات كل عام وعامين والذهاب إلى مكان آخر لإضافة المزيد.
تستمر الفترة المنطقية للاندماج والفهم في مكان العمل الجديد لعامين على الأقل، وفي بعض الحالات تكون أقل من ذلك بقليل وربما أكثر أحيانا. وتبدأ بعدها مرحلة العطاء وإضافة القيمة، والأخيرة مرحلة متجددة لأن كل عملية عطاء يتبعها تعلم جديد والتعلم الجديد يصنع إمكانات جديدة تساعد على حل مشكلات جديدة. تغيير الوظيفة المتعجل لا يمثل محاولة لاستكشاف تحد جديد، وإنما يمثل هربا من التحديات الحاضرة. ومثل هذه السير الذاتية يسهل اكتشافها، خصوصا إذا تغيرت ديناميكية سوق العمل وتغير ميزان العرض والطلب للوظائف المتخصصة والمهارات العليا.
تمثل الوظيفة الجديدة مرحلة مهمة في السيرة الذاتية، مهما تنقل الشخص فهو لن يعمل إلا في عدد محدود من الوظائف خلال حياته العملية. ستقتصر قيمته في نهاية الأمر ـ وقيمة المردود الذي يعود إليه ـ على القصص الجيدة والمراحل المفيدة التي مر بها. الهرب من التحديات، والتعامل غير المناسب مع الظروف الجدية لن يحسن من هذه القيمة أو يصنع التجارب المفيدة التي يحتاج إليها الموظف في مسيرته المهنية.