رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ميزانية «انتحارية» جلبت فوضى اقتصادية

"لن أرحل مع وزير المالية، لأني مصممة على المضي قدما للتخلص من الأزمة"
ليز تراس، رئيسة وزراء بريطانيا

قبل أيام من إجبار رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون على الاستقالة، قال علنا، إنه باق في منصبه إلى 2030. ومع ذلك خرج من الباب "الخلفي"، على اعتبار أنه أسوأ رئيس وزراء في تاريخ بريطانيا الحديث، وفق كل المؤرخين. لم يمض على وجود ليز تراس، في منصبها كرئيسة حكومة المملكة المتحدة، 38 يوما، حتى علت الأصوات بإقالتها أو عزلها، أو إجبارها على الاستقالة. هذه السياسية المحافظة المتقلبة جدا، كسرت الرقم القياسي لجونسون، لتكون أسوأ منه في المنصب، في حين لم يحدث في التاريخ البريطاني أيضا، أن تحدثت البلاد عن مصير رئيس الوزراء بهذه السرعة. فالأيام الـ100 الأولى لأي زعيم أو حاكم، توصف عادة بـ"شهر العسل"، وهذه لم تعش بالفعل "ساعة" عسل واحدة.
السبب معروف للجميع، يتعلق فقط بالفوضى الاقتصادية التي أحدثتها تراس، ووزير ماليتها كواسي كوارتنج، عبر الميزانية المصغرة أو التكميلية التي تضمنت تخفيضات ضريبية هائلة على الأغنياء والشركات، دون الإشارة إلى المصدر التمويلي لهذا الخفض. لماذا؟ لأن المصدر ليس إلا مزيدا من الاقتراض وزيادة عبء الديون الحكومية التي فاقت حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، بحدود 2.4 تريليون جنيه استرليني. المصيبة التي تواجهها تراس، أنها تلقت التحذير تلو الآخر قبل طرح هذه الميزانية "الانتحارية"، بأن خفض الضرائب دون العثور على جهة تمويلية غير الاقتراض، سيكون كارثة حقيقية، في وقت تعيش فيه بريطانيا "كغيرها من الدول" مصاعب اقتصادية جمة، بلغت حدا لم تعد تسيطر تماما على الموجة التضخمية التي تنال من البريطانيين مباشرة.
حزب المحافظين الحاكم يعيش أزمة حقيقية، انعكست بالطبع على الوضع في كل البلاد. فلم يحدث أن تعاقب على وزارة الخزانة أربعة وزراء في عشرة أشهر، ولم يحدث أن طرد وزير مالية من منصبه في أقل من خمسة أسابيع من تسلمه هذا المنصب. ولم يحدث أن حمل رئيس وزراء وزير ماليته مسؤولية خطة اقتصادية وقع عليها الرئيس ودافع عنها، وقام بتسويقها حتى الافتخار بمحتوياتها وما تقدمه للأعمال والناس! أقالت ليز تراس، وزير ماليتها كوارتنج، الذي تصفه بالصديق المخلص، ليس عقابا له على خطة خيالية، بل لإنقاذ نفسها من مصيره، على الأقل في الأيام الحالية. فلم يعد وجود تراس في الحكم مضمونا، مع تعاظم عدد النواب المحافظين الذين يعتقدون أنه يجب تغيير زعيم الحزب تراس الآن وليس غدا، إذا ما أراد المحافظون أن يواجهوا حزب العمال في الانتخابات العامة المقبلة، ويحققوا انتصارات. يقولون انتصارات، وهم يعترفون بأن المستوى الانتخابي لحزبهم بلغ الحضيض وفق كل الاستطلاعات المستقلة. ومع تمسك ليز تراس بمنصبها رغم كل التطورات غير المسبوقة، وجدت أنه لا بد من تعيين "منقذ" وزيرا للمالية يحظى باحترام الحزب وله تجارب حكومية سابقة نجحت. كان هذا وزير الخارجية والصحة السابق جيرمي هانت، الذي وقف ضد بوريس جونسون في معركة زعامة الحزب في 2019. هانت قبل التكليف، لكن الأضرار كانت قد تعمقت في الاقتصاد البريطاني، في مقدمتها اهتزاز ثقة السوق بالحكومة. وهذه النقطة تعد أهم المحاور الرئيسة لبقاء حكومة في السلطة. فبريطانيا في النهاية تعتمد اقتصاد السوق، وتعيش بسمعتها الائتمانية القوية. فلا يمكن "التناحر" بين من في السلطة ومن في حي المال في لندن بأي حال من الأحوال.
هل يستطيع وزير المالية الجديد هانت أن يعيد ثقة السوق إلى المشرعين الحكوميين؟ وهل هل هو قادر على تقديم خطة اقتصادية جديدة تضمن الحفاظ على ما تبقى من شعبية الحزب الحاكم الذي سيواجه انتخابات عامة في أقل من عامين؟ في الدول التي تقوم على اقتصاد السوق، من الصعب استعادة الثقة إذا ما فقدت أو اهتزت. فهذه الأخيرة هي من أهم الأدوات التي تمضي عبرها الأمور بصورة جيدة أو بسلاسة سواء في أوقات الازدهار أو في أزمنة الأزمات العابرة. كما أن استعادة هذه الثقة تتطلب وقتا لا تملكه الحكومة حقا، فضلا عن التأثيرات السلبية التي ستظهر يوميا من جانب نواب المحافظين الغاضبين من حكومة مهزوزة مضطربة مفككة، لا تتمتع رئيستها بالقدرة على ضبط الأمور بقوة.
أما بالنسبة إلى السؤال الثاني المرتبط بشعبية الحزب الحاكم وتأثير خطة هانت فيها. هذه نقطة عويصة جدا. فالوزير الجديد الذي وازن الأمور من الناحية النظرية بسرعة، عليه أن يقنع الناخب بضرورة خفض الإنفاق في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى مزيد من الإنفاق للوقوف إلى جانب الأسر التي تعاني أسوأ موجة تضخمية منذ أكثر من نصف قرن. وهذا يعني، أن الوزير الذي نجح حاليا في تهدئة الأمور على الأقل صوتيا، عليه أن يواجه أسئلة حول كيف يمكن خفض الإنفاق على الصحة العامة والخدمات والمعونات الاجتماعية، وفي الوقت نفسه يحضر نفسه وحزبه الحاكم لانتخابات كل المؤشرات تدل على أن المحافظين لن يخسروا فيها فحسب، بل سيفقدون من دوائر انتخابية كانت تمثل قلاعا لهم على مدى عقود.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي