لكيلا يكون الغذاء ضارا
لم تتوقف عمليات الغش في المنتجات الغذائية المختلفة طوال العقود الماضية، بل أخذت أشكالا مختلفة، وفرت لها مساحات زمنية للهرب من الرقابة الحكومية أو المجتمعية، حتى في الدول المعروفة بفرض قوانين صارمة في مجال الغذاء المحلي والمستورد.
والمشكلة الكبرى في هذه الساحة، أن الاضطرابات التي تشهدها سلاسل التوريد منذ أعوام، أسهمت إلى حد كبير في توسيع نطاق المنتجات المغشوشة التي تصل إلى المستهلك، وتوضع على أرفف أقرب المحال هنا وهناك. حتى إن أسعارها المرتفعة، أسهمت في تغاضي بعض الجهات المشرعة عن متابعة مصادرها وحقيقة محتوياتها. على أساس أنه لا يعقل أن تدفع ثمنا باهظا وغير عادي في منتج غذائي ما، تحوم حوله الشبهات. لكن الأمر لا يمكن أن يستمر هكذا. فنسبة من المنتجات الغذائية الفاخرة تم ضبطها بالفعل في دولة كبريطانيا وعدد من الدول الأخرى، ما أثار مفاجأة السوق وأوساط المستهلكين.
الخسائر المالية الناجمة عن وصول المنتجات غير الحقيقية إلى الأسواق لا يمكن تحديدها، وفق المختصين، كما أن الإصابات والحالات الصحية التي يتم التبليغ عنها الناتجة عن هذه المنتجات قليلة للغاية، وتبقى في حدود الإصابات الكبرى التي لا يمكن أن يتجاهلها المصاب، الأمر الذي يربك حقا عمل الجهات الرقابية المختلفة، بما فيها تلك التابعة لمؤسسات المجتمع المدني التي تمثل محورا رقابيا في الدول المتقدمة خصوصا. وهذه القضية، لا تختص طبعا بالمنتجات الغذائية التي تعد فاخرة، بل تشمل حتى العادية سواء كانت مصنعة محليا أو خارجيا. وفي الأعوام الماضية، زادت نسبة المنتجات الغذائية العضوية المشكوك في مصادرها حتى تكوينها، وباتت منتشرة في محال متخصصة ومشهورة، وأخرى عامة أفسحت لها مساحات ظاهرة على رفوفها.
الاحتيال الغذائي ليس جديدا بالطبع، لكنه يتصاعد بقوة، في ظل إخفاقات الجهات الرقابية، وعدم وجود إحصائيات رسمية تحدد نسبته أو انتشاره أو توسعه، لأن المعلومات الخاصة بهذا الشأن لا يتم إيصالها في أغلبيتها إلى الجهات المختصة. هذا الوضع أثار أسئلة كثيرة ومتنوعة لا تتعلق فقط بماهية الاحتيال الغذائي وتطوره وتنوعه، بل بوجود محال مكلفة من حيث الإيجارات والإنفاق التشغيلي، لكنها لا تجني أرباحا تبرر هذه التكاليف. صحيح أنها تخضع للمراجعات السنوية من قبل السلطات المختصة، لكن الصحيح أيضا أنها تواصل عملها طالما دفعت الضرائب الخاصة بها. إنها مسألة ليست معقدة بقدر ما هي متشعبة. وصارت أكثر تشعبا مع تعمق مشكلات سلاسل التوريد. فالاحتيال الغذائي لا ينزع الثقة من بعض المؤسسات المنتجة، بل يشمل الشركات التي تلتزم بقواعد الإنتاج والصحة العامة. لأن المستهلك لا يفرق كثيرا بين شركة وأخرى.
وهذه النقطة تسببت بالفعل في بعض الأضرار للشركات ذات السمعة الجيدة التي بنتها على مدى عقود. وتكفي الإشارة إلى أنه يمكن وضع العلامة التجارية المعروفة، على منتج غذائي لا علاقة لهذه العلامة به. وهذا ما يحدث حتى في الدول المتقدمة المعروفة بقوانينها الصحية الدقيقة والصارمة. والسبب الأساس يبقى دائما مرتبطا بمدى الحقائق التي تصل إلى المشرعين بهذا الخصوص. ما يبرر مثلا تفاوت تقديرات حجم الخسائر المالية الناجمة عن الاحتيال الغذائي على المستوى العالمي، ما بين 10 و50 مليار دولار سنويا.
لا يبدو أن هذه المسألة ستنتهي قريبا، ولا يمكن حصرها، إلا إذا توافرت منتجات غذائية حقيقية من جهات حقيقية تتمتع بالثقة والأمن الغذائي ـ الصحي لدى المشرعين والمستهلكين في آن معا. ولا شك في أن حل مشكلات الإمدادات سيسهم في تقييد هذه المسألة، علما بأنه لا توجد قوة يمكن أن تقضي عليها نهائيا.