رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


مشاريع خضراء بمسؤولية وحوكمة

الحديث عن التغيرات المناخية والبيئية أصبح على مائدة أي نقاش اليوم تقريبا، وأصبحت طروحاته متعددة ومتنوعة، فالموضوع تجاوز مرحلة التنظير والإثبات والأدلة، إلى مستوى المشاهدات اليومية، فلا يكاد يمر يوم تقريبا إلا وهناك عواصف هوجاء مدمرة أو أمطار فيضانية أو جفاف قاتل، ولم تعد هذه المشاهد مقصورة على مناطق دون أخرى بل هذا المنظر طغى وعم على مستوى العالم.
فلم يعد للجغرافيا أثر في تحديد هذه التقلبات أو توقعها بشكل دقيق، ومع هذه المشاهدات الحية للتقلبات المناخية وارتفاع درجة حرارة الأرض، فإن النقاش لا يزال محتدما حول الأسباب الكامنة خلفها، لكن رغم صعوبة إيجاد دليل علمي قاطع بشأن العلاقة بين هذه التغيرات المناخية وقضايا التصنيع، فإن المؤسسات الدولية تمضي قدما نحو دراسات وإجراءات في هذا الشأن. وقد جاءت اتفاقية باريس 2015 من أجل دفع العمل بهذا الاتجاه، وفي المسار نفسه اتجه عديد من مؤسسات التمويل لوضع متطلبات ملزمة للإفصاح عن المسؤولية البيئية والاستدامة في التقارير المالية للجهات التي تبحث عن التمويل، وأصبح هذا النوع من التمويل يعرف باسم التمويل الأخضر في رسالة واضحة الدلائل بشأن ربط أسواق رأس المال والمستثمرين بقضايا التنمية المستدامة، وباستخدام أدوات مالية تعرف باسم السندات الخضراء تسعى الدول والشركات إلى تأكيد التزامها بقضايا التنمية المستدامة والمناخ والبيئة.
تاريخيا، بدأت مجموعة من صناديق التقاعد السويدية الاستثمار في المشاريع التي تعلن التزاما بالمعايير البيئية وقضايا المناخ وذلك في 2007، ثم بدأ البنك الدولي يصدر هذا النوع من السندات لتمويل مشاريعه في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، وتقوم فكرة هذه السندات على أساس مكافأة الجهات الملتزمة بالمعايير والإفصاح البيئي حيث تنخفض الفوائد عليها بمقدار التزام جهة الإصدار بالمعايير البيئية التي وضعتها، وتتم إعادة تسعيرها وفقا لمستوى الامتثال البيئي أو الاجتماعي أو الحوكمة للشركات للجهة المستدينة.
ولأجل تحقيق مستوى منشود من المتحصلات الناتجة عن إصدار السندات الخضراء عند مستوى فائدة مقصود فإن جهة الإصدار تقوم بنشر إطار الالتزام البيئي الخاص بها، الذي يوضح بالتفصيل أنواع المشاريع التي تنوي تمويلها، مثل إدخال مزيد من وسائل النقل العام عديمة الانبعاثات، وتركيب التقنيات الحرارية المتجددة، وتعزيز التنوع البيولوجي، وذلك لتحقيق أهدافها المتمثلة في خفض انبعاثات الكربون. وقد أثبتت هذه التجربة وجود سوق فعالة لهذا النوع من أنشطة التمويل، وربطت شركة فورد تسهيلاتها الائتمانية بقياس معدلات انخفاض الانبعاثات الكربونية، وزيادة استخدام الطاقة الكهربائية من مصادر متجددة في مواقع التصنيع، كما أكدت دراسة للبنك الدولي أن السندات الخضراء نمت بمعدل 49 في المائة في الأعوام الخمسة التي سبقت 2021، وأن الإصدار السنوي لسوق السندات الخضراء قد يتجاوز تريليون دولار بحلول 2023.
وفي تقرير نشرته "الاقتصادية" أصبحت السعودية أكبر مصدر لأدوات الدين التي تراعي البيئة في العالم الإسلامي، حيث بلغ إجمالي ما أصدرته الجهات السعودية 7.93 مليار دولار ما بين 2019 ونهاية النصف الأول من العام الجاري 2022، كما يشير التقرير إلى أن ثلاث شركات مدرجة في السوق السعودية قامت خلال الفترة الماضية بإصدار سندات وصكوك تؤكد مبادئها مراعاة البيئة والمسؤولية الاجتماعية والحوكمة. فوجود سوق للتمويل الأخضر والاهتمام البيئي يعد انتصارا لكل الناشطين في هذا المجال وعلى رأسهم السعودية التي تقود منطقة الخليج عموما بوصول إجمالي ما تم إصداره من دول الخليج مجتمعة إلى نحو 10.6 مليار دولار، في حين أصدرت الجهات السعودية من السندات والصكوك التي تراعي البيئة والمسؤولية الاجتماعية والحوكمة 1.5 مليار دولار خلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام، وأصدرت الإمارات حتى الآن نحو 1.8 مليار دولار، وكذلك البحرين نحو 900 مليون دولار.
وهذا الاتجاه لم يكن تحولا عن المسار، بل إن السعودية تبنت رؤية الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الذي أطلق "مبادرة السعودية الخضراء" تأكيدا لدور المملكة الريادي وتحركها لإحداث نقلة نوعية داخليا وإقليميا تجاه التغير المناخي، لبناء مستقبل أفضل وتحسين مستوى جودة الحياة.
فالمملكة التي يعيش سكانها في بيئة ذات طبيعة مناخية قاسية تعمل على الاهتمام بالجانب البيئي وزراعة أشجار في جميع أنحاء المناطق لتحويل الصحراء إلى أرض خضراء وإعادة تأهيل كثير من الأراضي خلال العقود المقبلة، التي تعد بمنزلة حجر الأساس لمبادرة السعودية الخضراء، حيث يسهم التشجير في تحسين جودة الهواء، وتقليل العواصف الرملية، ومكافحة التصحر، وتخفيض درجات الحرارة في المناطق المجاورة.
ويشير التقرير إلى أن وكالتي "فيتش"، و"موديز" تعملان على تطوير تصنيفات خاصة بالاستدامة ما يعني أن الالتزام البيئي والإفصاح عن المسؤولية الاجتماعية والالتزام بمعايير الاستدامة قد تصبح شرطا أساسيا لقبول إصدار أي نوع من السندات أو الحصول على تسهيلات ائتمانية عند سعر فائدة مناسب، وهو ما يعني بالتالي أن تكلفة الاقتراض في المستقبل ستكون أكبر على الذين لا يلتزمون بإفصاح جيد في هذه المجالات، وبعبارة أخرى فإن فاتورة تجاهل تغير المناخ والالتزام البيئي والمسؤولية الاجتماعية ستكون أكبر في المستقبل، ولا بد للشركات أن تفعل اليوم أدواتها لتتبع أنشطتها في مجالات البيئة والمسؤولية الاجتماعية والاستدامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي