الأداة المتاحة .. لا حلول أخرى
كانت الأسواق تأمل خلال الآونة الأخيرة أن يخفف المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي" سياسة التشديد النقدي التي أطلقها بقوة مطلع العام الجاري، إلا أن الأمور تجري عكس ذلك تماما، مع شبه إجماع واضعي السياسة النقدية في الولايات المتحدة، على أنه لا مناص من مواصلة هذا التشديد، بصرف النظر عن بعض الآثار السلبية له في الأداء الاقتصادي عموما. و"الفيدرالي" في الواقع ليس البنك المركزي الوحيد في الأسواق المتقدمة الذي يمضي قدما في رفع الفائدة تدريجيا. بل تلتزم كل البنوك بهذا المسار، بهدف معالجة المشكلة الكبرى وهي الزيادات التاريخية لمعدلات التضخم، الذي بلغ في بعض الدول الخانة العشرية. ويبدو واضحا، أن الأدوات الأخرى لكبح جماح التضخم، ليست متوافرة في الوقت الراهن، بما في ذلك تثبيت الشركات أسعار السلع لفترة محددة، وغير ذلك من الآليات الأخرى.
التشديد النقدي يبقى دائما السلاح الأكثر حضورا، على الرغم من انعكاساته السلبية على النمو، الذي يمثل لأي اقتصاد قارب النجاة خلال الأزمات الاقتصادية، سواء المحلية أو العالمية. ولأن الأمر كذلك، فإن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لا تزال ترفض توصيف المشهد الاقتصادي المحلي حاليا على أنه بداية ركود، وتفضل التمسك بـ"التباطؤ" الذي صبغ العام الجاري.
صحيح أن الولايات المتحدة حققت مكاسب جراء رفع الفائدة التي بلغت 3 في المائة، عبر استقطاب أموال الأسهم، وضخها في السندات الأمريكية، ليس فقط لأنها أكثر أمانا في عالم اقتصادي مضطرب، بل لأنها تحقق عوائد مقبولة في هذا الوقت بالذات. لكن الصحيح أيضا أن مسألة النمو باتت بعيدة عن الساحة الأمريكية، واقتراب الركود من الأبواب. بعض التوقعات يشير إلى أن الأوضاع ستظل على ما هي عليه حتى منتصف العقد الجاري، خصوصا في ظل فشل استراتيجية التشديد في كبح جماح التضخم.
الذي يكرس المنهج الحالي لـ"الفيدرالي الأمريكي"، الاتفاق بين كل المشرعين الاقتصاديين تقريبا على مواصلة التشديد، وعدم الحديث عن التيسير الكمي لفترة طويلة. فقد توصلوا إلى أن تكلفة اتخاذ إجراءات مخففة لخفض التضخم، ستفوق تكلفة اتخاذ إجراءات قاسية. ومن هنا، فإن المشهد الاقتصادي الأمريكي والعالمي سيظل متصلا مباشرة بإجراءات السياسة النقدية الأمريكية، حتى تتضح الصورة العامة. لا أحد يتحدث حاليا عن النمو، على الرغم من تراجع معدلات البطالة على الساحة الأمريكية، إلا أن هذه الأخيرة لا تمثل مؤشرا محوريا وسط الأمواج المتلاطمة التي تضرب الاقتصاد الكلي في الولايات المتحدة، والتقلبات والمشكلات التي تواجه الاقتصاد العالمي عموما، وسط تفاقم الحرب في أوكرانيا وتداعياتها. العمل اليوم يبقى منحصرا في تقليل الخسائر الناجمة عن الاضطرابات الاقتصادية.
مرة أخرى، لا يوجد أي بديل عن رفع الفائدة الأمريكية في الأسابيع المتبقية من العام الجاري. فمن المتوقع أن تصل بحلول نهاية العام والفصل الأول من العام المقبل إلى ما بين 4.25 و4.75 في المائة، ومع ذلك سيبقى التضخم المستهدف عند 2 في المائة، بعيد المنال لفترات طويلة ربما دامت حتى نهاية العقد الحالي، ولا سيما أن بيانات التضخم لسبتمبر أعلنت اليوم في الولايات المتحدة مرتفعة 8.2 في المائة، لتأتي أعلى من التوقعات البالغة 8.1 في المائة. وهذا يعني أننا سنشهد تقلبات لن تتوقف في أسواق الأسهم الأمريكية، فضلا عن المصاعب التي ستزداد حدتها على الدول التي تعاني ديونا شبه مستدامة. فتكاليف هذه الديون ترتفع كلما أقدم "الفيدرالي" على زيادة الفائدة، وهذا ما تحذر منه المؤسسات الدولية التي تخشى من انهيارات حقيقية في عدد من الدول الناشئة والنامية، خصوصا التي توصف بالأشد فقرا.