الألوان .. رواية أخرى للتاريخ البشري
تحيط بنا الألوان من كل جانب، وشكلت أول العلامات التي نميز بها الأشياء من حولنا، وكانت ولا تزال وستبقى من بواكير المعارف التي تلقن للصغار، لوجودها بكثافة من حولنا، فهي قائمة في الفضاء الخارجي وعجائب الطبيعة وفي كل الأشياء، باختصار في أي مكان تولي إليه بصرك. لم يتردد كثيرون في مقارنة الألوان بالموسيقى والعطور، إن على مستوى الذائقة أو فيما يتعلق بالتأثير في المشاعر، فحضورها حتمي في حياة كل إنسان.
يكشف البحث في تاريخ وأنثروبولوجيا الألوان أن الأمر يتعدى كونه صباغة عادية تكسو هذا الشيء، أو مجرد لون يحظى بالأفضلية لدى شعب أو حضارة، نحو سيرورة تاريخية، امتزج فيها الأسطوري بالثقافي والفلسفي بالديني والنفسي بالاجتماعي، ويحدث أن يحضر السياسي بثقله في بعض الأحيان. فكانت النتيجة قصة تروى عن كل لون، وبين ثنايا كل حكاية حقبة من تاريخ شعب أو أمة.
لم تكن فكرة الألوان في ذهن الإنسان من وحي الخيال، بل استقاها من الطبيعة، فحاول اختراع طريقة لتقليد ألوان الطبيعة من حوله. تاريخيا، يعد الوصول إلى فكرة المحاكاة مرحلة متقدمة من التاريخ البشري، فقبلها تطلب الأمر اكتشاف الألوان تدريجيا، بدءا بالأبيض والأسود الحاضرين في جميع لغات العالم تقريبا، ثم جاء اللون الأحمر بعدهما، ولاحقا ظهرت تسمية اللونين الأخضر والأصفر مع التطور البشري، بعدها ظهر سادس الألوان وهو الأزرق، ثم البني في آخر قائمة الألوان، لتأتي بعدها فكرة الاشتقاقات اللونية. شهدت بعض الألوان تحولات عبر التاريخ نقلتها إلى نقيض ما كانت عليه، فالأزرق الذي كان مركزيا في حضارة بلاد الرافدين، ولدى قدماء المصريين، ظل منبوذا حتى وقت متأخر في رحاب أوروبا، فهو عند الرومان لون البرابرة "شعوب الشمال". وذهبت بهم الأساطير إلى الاعتقاد أن امتلاك المرأة عيونا زرقاء دلالة على الشقاء، وعند الرجل على الغباء. ازدراء ربطه ميشال باستورو المؤرخ الفرنسي بصعوبة التحكم في صناعة هذا اللون، قبل أن يرتد الأمر على عقبه، ليصبح الأزرق منذ أواخر القرن الـ19 اللون المفضل لدى الغربيين، رجالا ونساء، لكونه لونا توافقيا.
يفسر هذا إلى حد بعيد، الحضور القوي للأزرق في أعلام عديد من المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي واليونيسكو والبنك الدولي.. فهو منسجم مع كل الألوان وغير صادم للعين. تزعم رواية أن السبب وراء مصالحة الغربيين مع هذا اللون كان هو سروال "الجينز"، ولا سميا بعد انتشاره القوي كلباس يدل على التحرر والثورة على التقاليد الكلاسيكية. شهد اللون الأحمر بدوره تقلبات كبرى عبر التاريخ، فمكانته استثنائية بين الألوان. ولا سيما بعد القدسية التي اكتسبها في المسيحية، حيث عني به في التأويل المسيحي لون دم المسيح. علاوة على حمله دلالات أخرى في الفكر الفلسفي، فهو رمز للحب والجمال والمجد.. كل هذه المعاني جعلته في تناقض مع الطهرانية المسيحية، ما أدى إلى خسارته المكانة الدينية التي حظي بها. هكذا سيصبح الأحمر منبوذا حتى القرن الـ18، في أعقاب اندلاع الثورة الفرنسية التي احتضنته، للدلالة على الدم والثورة، فصار منذ تلك اللحظة رمز الثوار في كل أنحاء العالم، وصار لاحقا لون الحزب الشيوعي، ثم لون علم الاتحاد السوفياتي، ليجب بذلك اللون الأخضر الذي كان لون كل الثورات التي سبقت الثورة الفرنسية.
ارتباط الأخضر بالثورات مرده إلى رمزياته المختلفة، فقد كان رمز القدر والمصير وألعاب الحظ، فكانت طاولات اللعب ولوحات المدارس تلون بالأخضر، لكونها تحدد مصير اللاعبين والتلاميذ. وتعد قراءات أن ما سبق كان سببا وراء اختيار الأخضر لونا للمال والثروة، فهو لون ورقة الدولار عملة الولايات المتحدة، التي صنعت أواخر القرن الـ18، بعدما درجت الشعوب والأمم على الترميز للمال، لمدة طويلة، باللونين الفضي والذهبي.
أما عن علاقة الأخضر بالطبيعة والبيئة، فالأمر حديث نسبيا، فظهوره يعود إلى النصف الثاني من القرن الـ19 في آخر الحقبة الرومانسية، خاصة بعد انتشار أنشطة تجارية معينة في عديد من المدن، اختارت أن تتميز برموز وشعارات ملونة بالأخضر مثل الصيدليات والمختبرات الطبية.. من هناك تسلل اللون بوصفه لونا نظيفا للتعبير عن البيئة والطبيعة، حتى أضحى الآن صفة "الخضر"، تطلق على الأيديولوجيا التي تتبناها الحركات المدنية والأحزاب السياسية المدافعة عن البيئة.
بعيدا عن هذا التاريخ السردي التفصيلي، لعبت الألوان دورا محوريا في الطقوس الدينية، فاللون الأسود مثلا يمثل لونا عالميا للحزن والحداد بين كل الشعوب، فهو في المعتقد الشعبي اللون القريب جدا من الموت، لدرجة أن بعض القبائل يعمد أفرادها عند وفاة أحد الأقارب إلى صباغة أسنانهم بالأسود. اختار مسلمو الأندلس - لأسباب سياسية - معاكسة هذه القاعدة، فاتخذوا البياض دلالة على الحداد، ولا يزال هذا الأمر كذلك في بلاد المغرب إلى اليوم، فأهل الميت يرتدون الملابس البيضاء تعبيرا منهم عن الحزن.
وعبر الشاعر الأندلسي أبو الحسن الحصري عن هذا الاستثناء اللوني بقوله:
إذا كان البياض لباس حزن
بأندلس فذاك من الصواب
ألم ترني لبست بياض شيبي
لأني قد حزنت على الشباب
يجد هذا التميز تفسيره في السياسة، فقد اختار الأمويون في الأندلس اللون الأبيض، مخالفة لبني العباس في لباسهم السواد عند الوفاة. نشير إلى مركزية اللون في تاريخ الدولة الإسلامية، فالأبيض كان لون بني أمية، والأسود لون العباسيين، واختار الفاطميون والعلويون الأخضر، فيما فضل العثمانيون التميز بالأحمر. وهذا ما يوضح الحضور اللافت لهذه الألوان الأربعة "الأبيض، الأسود، الأخضر، والأحمر" في أعلام الدول العربية، الذي ترده تأويلات إلى أبيات الشاعر صفي الدين الحلي "سلي الرماح العوالي عن معالينا/ واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا، بيض صنائعنا سود وقائعنا/ خضر مرابعنا حمر مواضينا، لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا/ ولا ينال العلا من قدما الحذرا".