رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الركود .. قياسات ومؤشرات

يطرح عديد من المستثمرين تساؤلات عميقة حول الأداء الاقتصادي للدول المتقدمة خلال الفترة الأخيرة، يدفعهم في ذلك ما إذا كان الركود الاقتصادي قد وقع بالفعل. فعديد من الجهات المهتمة بالنمو الاقتصادي ترى أن الانكماش موجود فعلا. وعلى مدار الـ18 شهرا الماضية، تضافرت عوامل عدة لإيجاد مزيج للاقتصاد العالمي، إذ بالغت الولايات المتحدة في تحفيز اقتصادها استجابة لوباء كوفيد - 19، ما أدى إلى حدوث تضخم ليس داخل حدودها فحسب، بل خارجها، وأدى طلب المستهلكين النهم على السلع إلى تقوية سلاسل التوريد العالمية. كما فاقمت محاولات الصين للقضاء على وباء كورونا عبر الإغلاق هذه المشكلات. واستجابة للتضخم الذي أعقب ذلك، رفعت أربعة أخماس البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم أسعار الفائدة بمعدل 1.5 نقطة مئوية حتى الآن هذا العام، ما تسبب في تراجع أسواق الأسهم.
فعلى مؤشرات الركود، هناك مجموعة من المؤشرات تدل عليه. أولها انخفاض القدرة الشرائية لدى المستهلك. فضعف القدرة الشرائية لدى الفرد يؤدي إلى ضعف القدرة الشرائية لدى الحكومات، كما يترافق مع ضعف الإنتاج العام لدى الدول. ويتبع الركود الاقتصادي رفع معدلات الفائدة في البنوك المركزية، ما يزيد من مخاطر ضعف السوق وكذلك عدم الإقبال على الاقتراض. وبناء على هذا المشهد يرجح الخبراء الاقتصاديون حدوث ركود اقتصادي في 2023، ويعزى هذا التوقع -إلى حد كبير- لارتفاع أسعار الفائدة التي تعهدت بها البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم لمكافحة التضخم.
وعلى هذا الصعيد، نشرت "الاقتصادية" أخيرا في تحليل مدعم بالأرقام قائمة الـ21 اقتصادا التي سجلت انكماشا لربعين متتاليين، وضمت هذه القائمة طيفا من الدول، ويلاحظ أنها نماذج متنوعة لنماذج اقتصادات مختلفة، راوحت بين متقدمة مثل الولايات المتحدة، ودول صاعدة مثل أوكرانيا، ودول ضعيفة الدخل مثل سريلانكا، لبنان، وماكاو، كما بينت القائمة أن التوزيع الجغرافي لهذه الدول تضمن ثمانية اقتصادات من قارة آسيا، ويبدو أنها الأكثر عددا في هذه القائمة، إضافة إلى أربع دول من الأمريكيتين الجنوبية والشمالية، "الولايات وأخرى مثلها من إفريقيا، وتشمل القائمة ثلاث دول من قارة أستراليا، بجانب دولتين أوروبيتين. وهذا يقدم دليلا واضحا على أنه لا يوجد اقتصاد محصن من الوقوع في الركود، أو أن يصاب به، لكن الأسباب تتفاوت بالطبع، فالانكماش في الولايات المتحدة لا يزال مدفوعا بالارتفاع المستمر في أسعار الفائدة، وهذا الارتفاع في الفائدة مخطط له ومقصود من خلال سعي البنك الفيدرالي الأمريكي إلى معالجة آثار التضخم المتصاعد في الولايات المتحدة ودول أخرى، بعد الخروج القوي وغير المخطط له بعناية من أزمة كورونا، وهذا يعيدنا قليلا إلى الأشهر الأولى من أزمة كورونا عندما حذرت السعودية من التراخي العالمي في مواجهة الجائحة، وأن العالم لا يأخذ هذا الأمر بالجدية الكافية، ولهذا سعت السعودية حينها إلى عقد جلسة طارئة لمجموعة الدول العشرين لمناقشة هذه القضية، وفي وقت عملت بحزم وتخطيط مناسب للأزمة استطاعت الخروج منها بالطريقة المخططة المنهجية نفسها، ولذلك تجنبت كل التقلبات الناشئة من الأزمة، وحققت بذلك أكبر نمو عالمي في الربع الثاني من هذا العام، وتسعى إلى الوصول إلى نمو بنحو 8 المائة مع نهاية العام، بينما الدول التي خرجت من الأزمة بسرعة دون تخطيط مرسوم، تواجه اليوم تقلبات خطيرة على ارتفاع في التضخم، نتيجة الطلب القوي بعد الانكماش في فترة الجائحة، وفي ظل استمرار التعثر في سلاسل الإمداد العالمية مع الحرب في أوكرانيا، جاء رفع أسعار الفائدة لمعالجة التضخم في غير وقته تماما ليس بالنسبة إلى الولايات المتحدة فحسب، بل حتى لعدد من دول العالم كافة، وبينما يظهر تقرير "الاقتصادية" أن 21 دولة تعاني ثاني انكماش ربعي.
وكان صندوق النقد الدولي قد خفض توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي في تموز (يوليو) الماضي 0.4 في المائة عن التقديرات السابقة في نيسان (أبريل) إلى 3.2 في المائة لـ2022، وبـ0.7 في المائة إلى 2.9 في المائة لـ2023.
وباستخدام أدوات تقنية مالية، فإن حدوث انكماش في ربعين متتالين يعني دخول الدولة في الركود الاقتصادي، ومع ذلك فإن الواقع الاقتصادي يعطي مؤشرات مختلفة بين الدول في القائمة، وطبقا لما أشارت إليه وزيرة الخزانة الأمريكية أخيرا إلى أنه وفي حين أن ربعين متتاليين من النمو السلبي يعدان عموما ركودا، إلا أن الظروف في الاقتصاد الأمريكي فريدة من نوعها على حد تعبيرها، ذلك أن الاقتصاد استطاع إنتاج نحو 400 ألف وظيفة شهريا، وهذا ليس ركودا كما أكدت، وهنا يمكن القول إن الاعتراف بالركود الاقتصادي هو أمر مختلف عن قياساته العلمية.
وهنا نلاحظ أن تقرير "الاقتصادية"، يظهر فعليا أن بيانات التوظيف لسبتمبر الماضي شهدت نموا أفضل من التوقعات بعد زيادة الوظائف غير الزراعية بواقع 263 ألف وظيفة، وتراجع البطالة إلى 3.5 في المائة، ولهذا السبب لم يعلن المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في الولايات المتحدة، دخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة الركود حتى الآن، وهو المسؤول الرسمي عن ذلك تاريخيا في البلاد. تاريخيا فقد تم إعلان الركود بين أواخر 2007 و2009 دون تسجيل ربعين سلبيين متتاليين بعد أن أظهرت البيانات أن الربعين الأول والثالث من 2008 كانا سلبيين، لكن ليس الثاني. فالركود أكبر من مجرد ربعين سلبيين، بل هو ضمن مؤشرات أخرى ضرورية، لكن ليس هذا هو الحال في دول أخرى مثل الاقتصاد اللبناني الذي انكمش بـ20.3 في المائة و15 في المائة آخر فصلين، أو اليمن الذي انكمش اقتصاده 2 في المائة و0.5 في المائة، هنا يبدو أن الركود واقع نظرا إلى الحالة التي تمر بها البلاد بسبب الحرب، وحالة التوظيف العامة، والحال كذلك في أوكرانيا التي سجلت الأكثر انكماشا خلال الربع الثاني من العام بواقع 37.2 في المائة، والسبب يعود إلى الحرب التي أثرت بشكل واضح في الاقتصاد. وهذه النتيجة تؤكد أن هناك تراجعا وانكماشا في الاقتصاد الأمريكي لربعين متتاليين، رغم عدم الاعتراف بأن هذا يعني ركودا نظرا إلى انتعاش الوظائف هناك، فإن توقع رفع سعر الفائدة أكثر سيكون له حضور أقوى، وبالتالي يكون هذا الوضع أكثر تأثيرا في دول أخرى، ما يعني أننا قد نشاهد دولا أخرى قد تدخل القائمة في نهاية العام مع استمرار الحرب وأسعار الفائدة وتعطل سلاسل الإمداد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي