المستثمرون البريطانيون يجب أن يتحلوا بالحذر وليس الذعر

المستثمرون البريطانيون يجب أن يتحلوا بالحذر وليس الذعر

الزلزال الذي نتج عن "الحدث المالي" المتعلق بخفض الضرائب وحرية الإنفاق للحكومة البريطانية الجديدة في أواخر الشهر الماضي، انتهى من زعزعة الأسواق.
ساعدت عمليات شراء السندات المتجددة من بنك إنجلترا على تهدئة الفوضى في سندات الحكومة البريطانية، كما أن تلميحاته حول الزيادات الكبيرة المقبلة في أسعار الفائدة دعمت الجنيه الاسترليني. حيث وصل سعر الجنيه الواحد الآن إلى 1.13 دولار، وهو المستوى نفسه تقريبا قبل أن يكشف كواسي كوارتنيج وزير المالية النقاب عن الميزانية "المصغرة" ذات التأثير "الأقصى". فيما أسهم تغيير موقف الحكومة تجاه خفض معدل الضريبة بمقدار 45 بنسا وتعهدها بتسريع تنفيذ خطة خفض الديون في حالة من الهدوء المالي الهش.
مع ذلك، قد تظل آثار هذا الزلزال باقية لفترة من الزمن. ما لا شك فيه أن سمعة المملكة المتحدة قد تكدرت في أوساط المستثمرين. في الواقع، كانت التحديات تتصاعد منذ فترة طويلة - بحيث لا يمكن دحرها من خلال حملة الاجتماعات الإعلامية الحكومية والبنك المركزي الأكثر صرامة. يرى عديد من المستثمرين أن مستقبل المملكة المتحدة أصبح ضعيفا ويخشى البعض أن الأسوأ مقبل.
حتى قبل الاضطراب الأخير في السوق، حذر فريق البحث في دويتشه بانك من أن المملكة المتحدة كانت عرضة "لأزمة ميزان المدفوعات" التقليدية التي تحدث عادة مع الدول النامية المتعثرة. وما كان يعد سابقا بأنه سيناريو غير متوقع ليوم الحساب، أصبح من الممكن التفكير فيه في الأسابيع الأخيرة. أدى تدخل صندوق النقد الدولي عندما قال إنه "يراقب التطورات الاقتصادية الأخيرة في المملكة المتحدة من كثب، وإنه في تواصل مع السلطات" إلى زيادة الشعور بأنها تشبه أزمات الأسواق الناشئة.
لكن لحسن الحظ، مع أن مأزق المملكة المتحدة خطير - وتعامل الحكومة معه كان بائسا - إلا أن مخاطر حدوث انهيار كامل أمر مبالغ فيه. ما زلنا نتمتع بعديد من المزايا الرئيسة التي ستساعد على دعم الدولة في هذه الأوقات الصعبة. لذلك يجب على المستثمرين البريطانيين أن يتحلوا بالحذر، وليس الذعر.
يمكن لأزمات ميزان المدفوعات أن تحدث عندما تستورد الدولة أكثر مما تصدر. فإما أن يعوض المستثمرون الأجانب الفارق، وإما أن يتم سحب المدخرات الخارجية أو أن تنخفض العملة لكي تحقق التوازن في الحساب الجاري الإجمالي. لكن الخطر هو "التوقف المفاجئ" - وذلك عندما يشعر المستثمرون بالفزع فجأة ويرفضون سد الفارق.
عندها تنخفض العملة وترتفع تكاليف الاقتراض. في كثير من الأحيان، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تفاقم التحديات الأساسية، ولا سيما عبر زيادة تكلفة خدمة عبء الديون المتزايدة أصلا. يمكن أن يؤدي هذا بعدها إلى إخافة المستثمرين أكثر والتسبب في دوامة متسارعة نحو الانخفاض إلى أن تساعد الإجراءات الجذرية - مثل برنامج الإنقاذ المقدم من صندوق النقد الدولي، الذي احتاجت إليه المملكة المتحدة في السبعينيات - على قطع حلقة الآثار المرتدة.
لنتحدث أولا عن الأخبار السيئة. لأن هناك كثيرا منها. من المتوقع أن تكون المملكة المتحدة العام المقبل من أبطأ الاقتصادات الرئيسة نموا في العالم، وأن تعاني أعلى معدلات التضخم، وأن تبلغ عن أكبر عجز في الحساب الجاري داخل دول مجموعة العشرين. وإذا أمكن، فإن الوضع المالي في المملكة المتحدة سيزداد سوءا.
فيما يقدر المحللون في رويال بنك أوف كندا أنه سيتعين على المملكة المتحدة الآن بيع 226 مليار جنيه استرليني من السندات الحكومية الصافية في الفترة بين 2023 و2024 لتمويل العجز المتزايد في الميزانية. إن إضافة تكلفة تعويض بنك إنجلترا عن الخسائر في محفظته من السندات والعرض الإضافي للسندات من مبيعات "التشديد الكمي" التي خطط لها البنك المركزي، يعني أنه سيتعين على المستثمرين تحمل ما يصل إلى 390 مليار جنيه استرليني من ديون الحكومة البريطانية على مدار الأشهر الـ18 المقبلة - وهذا يفوق الرقم القياسي السابق الذي بلغ 130 مليار جنيه استرليني تقريبا بين 2010 و2011.
لا عجب إذا أن الجنيه الاسترليني ما زال مضطربا. لكن بنك إنجلترا لا يمكنه التدخل بشكل مكثف في أسواق العملات لدعم الجنيه الاسترليني، كما فعل بنك اليابان مع الين أخيرا. لدى بنك اليابان احتياطي بقيمة 1.2 تريليون دولار، في حين أن احتياطي بنك إنجلترا يبلغ 108 مليارات دولار. وهذا يكفي لتغطية قيمة الواردات لبضعة أشهر فقط.
لذا فإن عبء السيطرة على التضخم واستقرار الجنيه الاسترليني سيقع على عاتق أداة البنك الأكثر حدة وقوة، أسعار الفائدة. تقوم الأسواق حاليا بتسعير أنه سيتعين على البنك المركزي البريطاني رفع أسعار الفائدة بنقطة مئوية كاملة إلى نحو 3.25 في المائة الشهر المقبل، وإلى ذروة 5.5 في المائة العام المقبل. قبل وضع الميزانية "المصغرة" كانت الذروة المتوقعة هي 4.5 في المائة.
قفزت معدلات الرهن العقاري بشكل حاد بالفعل هذا العام وهي تقف الآن عند أكثر من 6 في المائة ثابتة لمدة عامين، مقارنة بـ4.7 في المائة قبل 23 أيلول (سبتمبر). ستتسبب سلسلة من الزيادات الكبيرة في أسعار الفائدة التي لم تأت بعد من بنك إنجلترا بالأذى لعديد من الأسر، في وقت فيه التضخم المتصاعد مؤلما. والنتيجة هي نظرة اقتصادية قاتمة للمملكة المتحدة، ما سيؤثر بلا شك في تقييمات عديد من الشركات البريطانية المدرجة، والعقارات السكنية، التي تعد أكبر الأصول التي يمتلكها الناس.
مع ذلك، ما زال احتمال أن تحدث أزمة ديون تقليدية غير مرجح. فلحسن الحظ، أن معظم الأشياء الأساسية اللازمة لإضرام مثل هذه النار غير متوافرة في المملكة المتحدة.
بداية، نعم، تبدو احتياطيات العملات الأجنبية في المملكة المتحدة ضعيفة مقارنة بعديد من الدول الأخرى. لكن المملكة المتحدة لا تقترض بالعملة الأجنبية، كما يفعل عديد من الأسواق الناشئة. وعندما ينخفض الجنيه الاسترليني، فإنه لا يزيد من عبء الديون على أي أحد باستثناء قلة من الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات في المملكة المتحدة التي تقترض في الدولار. في الواقع، طالما أن الأمور لا تصبح غير منظمة، فإن العملات العائمة مثل الجنيه الاسترليني تعمل مثل صمام تحرير الضغط، وتساعد على تسوية الاختلالات.
كما أن تفاصيل الدين العام للمملكة المتحدة مرضية أيضا. إذ يبلغ متوسط الاستحقاق المرجح للسندات الحكومية البريطانية نحو الـ15 عاما، مقارنة بنحو ستة أعوام في كل من ألمانيا والولايات المتحدة. هذا يعني أن الأمر يستغرق وقتا حتى تصل العائدات المتزايدة إلى موارد الشؤون المالية للدولة في المملكة المتحدة. بقدر ما كانت موجة بيع السندات الأخيرة دراماتيكية، فإنه ما زال بإمكان الحكومة اقتراض الأموال على مدى العقود الثلاثة المقبلة ودفع 4.2 في المائة سنويا فقط.
أخيرا، ما زالت المملكة المتحدة ركيزة صغيرة لكنها مهمة للنظام المالي العالمي، مع قاعدة مستثمرين محليين كبيرة وقاعدة عالمية أكبر مستعدة للإقراض. لا يزال الجنيه الاسترليني عملة احتياطية مرغوبة لدى البنوك المركزية في الخارج، التي تمتلك ما قيمته نحو 580 مليار دولار من السندات الحكومية. وهذا الوضع لا يمكن تدميره بسهولة.
يمكن ملاحظة عدم وجود أي خوف حقيقي بشأن ملاءة المملكة المتحدة في سعر ما يسمى بمقايضات التخلف عن السداد الائتماني، وهو نوع من العقود الشبيهة بالتأمين الذي يسمح للمستثمرين بالتأمين أو الرهان على دولة ما إذا نكثت بالتزاماتها المالية. ارتفع سعر الحماية البريطانية لمدة خمسة أعوام بشكل طفيف إلى 45 نقطة أساس هذا العام، لكن هذا لا يتعدى تكلفة 32 نقطة أساس من مقايضات التخلف عن السداد الفرنسية بفارق ضئيل، وأقل بكثير من 163 نقطة أساس اللازمة حاليا للتأمين ضد تخلف إيطاليا عن السداد.
إن المملكة المتحدة تواجه فترة اختبار، التي هي أبعد من التحديات المباشرة المتمثلة في دفع ثمن الوقود للحفاظ على الأضواء والتدفئة خلال هذا الشتاء. السيناريو الأكثر ترجيحا هو أن يبقى التضخم مرتفعا بشكل مؤلم لفترة طويلة وغير مريحة، وأن ترتفع تكاليف الاقتراض الحكومي لتعويض المستثمرين عن المخاطر الإضافية، وأن يبدأ الجنيه الاسترليني في الهبوط مرة أخرى - ربما لأقل من التكافؤ مقابل كل من الدولار واليورو.
يمكن للمدخرين توقع أسعار فائدة أعلى بسبب محاولات بنك إنجلترا خفض التضخم، في حين سيتعرض حاملو الرهن العقاري للضغط بينما سيستمر المساهمون في المملكة المتحدة بالصر على أسنانهم.

الأكثر قراءة