في عالم ما بعد النيوليبرالية .. ملامح الاقتصاد الأمريكي غير واضحة
قبل أكثر من 40 عاما، ولدت ثورة ريجان - تاتشر. تم خفض الضرائب وسحق النقابات. تحررت الأسواق من القيود التنظيمية، وأطلق العنان للرأسمالية العالمية. لكن المؤشرات الاقتصادية تتأرجح. خلال الأسبوعين الماضيين، أصبح واضحا تماما أن أي شيء يتعلق - ولو من بعيد - باقتصاد التنقيط (يعرف أيضا بالاقتصاد المتدرج) يمثل الآن "نقطة ضعف" سياسية.
المثال الأكثر وضوحا هو – بالتأكيد - رد الفعل العنيف ضد خطة ليز تراس، رئيسة الوزراء البريطانية، الغريبة لخفض الضرائب على الأغنياء بعد إعلانها حزمة مساعدات ضخمة لدعم أسعار الطاقة. الآن، أصبحت "سياسات تراس الاقتصادية" مستبعدة من طاولة النقاش، وأصبحت قيادة رئيسة الوزراء نفسها في خطر.
لكن المملكة المتحدة ليست وحدها التي تواجه منحدر "النيوليبرالية".
التقيت أخيرا بمسؤول كبير في إدارة بايدن أخبرني أن رؤساء تنفيذيين كثيرون يأتون الآن إلى واشنطن ويطلبون "إشارة من الحكومة - أين ينبغي أن نستثمر؟ هل يجب أن نكون في فيتنام أو المكسيك؟ ما القطاعات التي تريدنا أن ندخل فيها؟"
في حين أن الحكومة ليست بعد في مجال اختيار فائزين وخاسرين، انتقل البيت الأبيض بالفعل إلى حقبة ما بعد النيوليبرالية - ويستعد كثيرون في مجتمع الأعمال لذلك أيضا. ربما لا يحب الرؤساء التنفيذيون فكرة عالم متفكك العولمة مع فرض مزيد من القيود التنظيمية وزيادة سيطرة الدولة وقوة العمل المتنامية. لكن يمكنهم عادة العثور على طريقة لجني المال طالما أنهم يفهمون قواعد السوق.
إذن، ما القواعد الجديدة؟ وضعت إدارة بايدن أخيرا مخططا واضحا للاقتصاد الذي تريده، تضمن خمسة عناصر رئيسة. الأول هو تمكين الموظفين، وهو أمر سعت إلى تحقيقه باستخدام الميزانيات الفيدرالية لدعم العمل النقابي. العنصر الآخر هو تحقيق الاستفادة القصوى من السياسة المالية في الكونجرس المنقسم لدعم الأسر العاملة في مجالات، مثل الرعاية الصحية ورعاية الأطفال، التي لا يمكن لكثير من الأمريكيين تحمل تكاليفها على نحو متزايد.
لكن كما قالت لي جينا ريموندو، وزيرة التجارة، قبل بضعة أشهر، يجب ألا يقتصر عمل الحكومة فقط على خفض الضرائب وإعادة توزيع للثروة. تريد هذه الإدارة أن تلعب دورا أكبر في توجيه جانب العرض في القطاع الخاص. على وجه الخصوص، تريد تشجيع صناعة الأشياء، ليس فقط بالدفع نحو "شراء المكونات الأمريكية"، بل من خلال تحول جوهري بدرجة أكبر في تركيز السياسة من التوزيع إلى الإنتاج.
هذا يعني سياسة صناعية. على الرغم من عدم وجود استراتيجية مفصلة بالكامل في واشنطن، إلا أن هناك علامات واضحة على انتهاء حقبة اقتصاديات عدم التدخل.
إحداها حقيقة أنه سيتعين قريبا على شركات كثيرة الاختيار بين الولايات المتحدة والصين. فك الارتباط الرسمي بين الدولتين يكتسب الزخم - هناك عدد قياسي من فرص العمل للأمريكيين التي تمت استعادتها من الصين، وكذلك مطالبات بتشديد القواعد المتعلقة بعمليات نقل التكنولوجيا.
علامة أخرى تتمثل في أن المرونة والدعم الاحتياطي في سلاسل الإمداد الحيوية أصبحتا أكثر أهمية من ذي قبل. قبل بضعة أيام فقط، أصبحت "ميكرون" ثاني شركة كبيرة (بعد إنتل) تعلن عن استثمار كبير في أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، حيث استثمرت مائة مليار دولار في مسبك معادن جديد شمال نيويورك.
كما أن الاستثمار الفيدرالي في السيارات الكهربائية يجلب وظائف جديدة إلى أجزاء محاصرة في الجنوب والغرب الأوسط. في حين إن الدولار القوي قد يصبح رياحا معاكسة لآمال الإدارة في تنمية اقتصاد أكبر في مجالي التصنيع والتصدير، إلا أن انخفاض تكلفة مدخلات الطاقة في الولايات المتحدة مقارنة بأوروبا في الوقت الحالي يمثل قوة دافعة.
دعم "الوطنية" الاقتصادية الآن هو مبدأ العمل لكلا جانبي الانقسام السياسي في واشنطن. روبرت لايتهايزر، الممثل التجاري الأمريكي السابق في عهد دونالد ترمب، اشتهر بأنه من مشجعي التخلص من العجز التجاري الأمريكي. لكن أخيرا، دعا رو خانا، نائب الكونجرس من الحزب الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا - وهو شخصية صاعدة في الأوساط التقدمية - إلى الأمر نفسه، مؤيدا تحقيق الولايات المتحدة فائضا تجاريا مع بقية العالم بحلول 2035.
كما أوضح خانا: "العجز التجاري في بعض الأعوام لا ضير فيه، عندما يوازنه فوائض تجارية في أعوام أخرى. لكن الدولة تعاني عجزا تجاريا مستمرا منذ 1975". يعتقد أن الحكومة يجب أن تساعد على تصحيح هذا بتقديم قروض دون فائدة للمصانع، وتحقيق الاستفادة القصوى من المشتريات الفيدرالية لتأمين الأسواق.
سمعت خانا يتحدث الأسبوع الماضي عند إطلاق مبادرة "إعادة تصور الاقتصاد"، وهي مبادرة أطلقتها كلية كينيدي في جامعة هارفارد بقيادة الاقتصاديين داني رودريك وجوردون هانسون. تهدف المبادرة إلى استبدال السياسات النيوليبرالية بشيء جديد، وهي واحدة من برامج عدة مماثلة في الجامعات الكبرى في جميع أنحاء الولايات المتحدة. تتنافس كثير من هذه المؤسسات لتصبح مركز التفكير الاقتصادي الحديث، تماما كما كانت جامعة شيكاغو مركزا للنيوليبرالية.
لخص خانا التحدي الحالي قائلا: "إذا لم نتمكن من تصحيح الاقتصاد، فلن يكون لدينا ديمقراطية متعددة الأعراق". هذه العبارة نفسها تمثل شيئا جديدا - في الماضي، كانت المحادثات بين المساواة العرقية والتفاوت الطبقي في الولايات المتحدة منفصلة. لكن الديمقراطيين يحاولون بصورة متزايدة ربط الاثنين معا، في الوقت الذي يعملون فيه على إيجاد ملامح لاقتصاديات ما بعد النيوليبرالية.
كان هذا موضوع حدث كبير آخر الأسبوع الماضي، برعاية معهد روزفلت، حيث اجتمع السياسيون التقدميون (كثير منهم من داخل الإدارة) لمناقشة تفاصيل السياسة الصناعية الأمريكية. في حين أنها ليست واضحة تماما حتى الآن، إلا أن هناك أمرا واحدا - كل ذلك يناقض اقتصاد التنقيط.