تباطؤ مخيف أو ركود مرعب
"العالم مقبل على ركود عالمي، وسط أزمات متعددة"
نجوزي إيويالا، مديرة منظمة التجارة العالمية
غابت إمكانية الحديث حاليا عما إذا كان الاقتصاد العالمي سيدخل دائرة الركود أم لا. الحديث الآن يدور في الواقع عن مستوى هذا الركود في العام المقبل، والمدة التي سيسيطر فيها على المشهد الاقتصادي العام. والنظرة هنا ليست تشاؤمية، كما تبدو للوهلة الأولى، لكنها حقيقية مدعومة من أكثر من جهة دولية، وصلت إلى استنتاجات تصب كلها في أن الركود مقبل، وربما سيكون أقسى من ذلك الذي ضرب العالم في أعقاب جائحة كورونا، بل هناك من يعتقد بأنه سيكون أكثر عنفا من موجة الركود التي تلت الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008. المؤشرات كلها تدعم هذه النظرة بالفعل، التي تشمل الاقتصادات المتقدمة والناشئة، وتلك التي توصف عادة بالأشد فقرا.
العوامل الدافعة للركود المحتمل المقبل كثيرة وباتت معروفة للجميع. تفاقم الموجة التضخمية الهائلة في كل مكان تقريبا، واستفحال حرب في أوروبا هي الأخطر على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية، إلى جانب طبعا، السياسات الاقتصادية التي يتم اتخاذها من أجل كبح جماح التضخم، وفي مقدمتها التشديد النقدي، الذي أتى بعد أعوام عديدة من تيسير كمي أسهم في دفع النمو الاقتصادي بثبات إلى الأعلى. منظمة التجارة العالمية تعترف، "كغيرها من المنظمات الدولية"، بأن الركود يلوح في الأفق، لكنها تطرح نقطة غير واقعية، وهي التركيز على النمو في هذا الوقت. بالطبع هي أرادت تخفيف وقع الاستنتاجات غير المستحبة، لكن الواقع لا يمكن تحقيق النمو، وأدوات الإنتاج مكبلة بصورة أو بأخرى، إلى جانب تضخم صار مثل كرة الثلج لا يلبث أن يكبر ويكبر، حتى إنه بلغ الخانة العشرية في عدد من الدول المتقدمة.
المحور الأهم هنا، يبقى محصورا في كيفية الخروج من الركود في أقرب وقت ممكن، وإذا ما نجح العالم في ذلك، فإن النمو الاقتصادي سيكون مضمونا بصورة تلقائية. إلا أن المسألة ليست بهذه البساطة، في ظل انعدام الأمن، وتوسع نطاق الخلافات الجيوسياسية، والمشكلات المفاقمة على ساحة المناخ عموما، إلى جانب ارتفاع أسعار السلع الذي يبدو أنه لن يتوقف قريبا، على الرغم من تراجع هائل لتكاليف الشحن حول العالم بلغ 70 في المائة. فالطاقة المرتفعة زادت في الواقع من وتيرة ارتفاع الأسعار، إلى درجة أن دولا متقدمة، تفكر جديا في حملة لتقنين استهلاك الكهرباء في الأسابيع المتبقية من العام الجاري على الأقل، وربما خلال الربع الأول من العام المقبل. حتى إن بعض الطروحات تتحدث عن الطلب من السكان خفض الحرارة التي يغسلون بها ملابسهم!
كل شيء في النهاية بات مرتبطا بصورة مباشرة بأوضاع الفائدة حول العالم. فالفائدة المرتفعة لا تحقق بالطبع النمو، وفي الوقت نفسه تزيد من عمق الركود أو التباطؤ الاقتصادي هنا وهناك. وهذه النقطة تشمل بصورة أساسية أيضا الدول النامية والفقيرة التي تعاني أساسا أعباء الديون. فالفائدة التي ترتفع على الدولار الأمريكي تزيد كل مرة من تكاليف هذه الديون. هذا جانب كان موجودا قبل الأزمة الاقتصادية الراهنة، لكنه يشهد معها "أي الأزمة" مخاطر جمة ربما تؤدي إلى عجز بعض الدول عن السداد في مرحلة لاحقة. وحدث بالفعل أن عجزت مطلع العام الجاري دول عن السداد، وهناك أخرى مرشحة لأن تكون في الوضعية نفسها بداية العام المقبل.
حتى لو نجا الاقتصاد العالمي من ركود عميق، وظل في نطاق التباطؤ، أو ضمن معدل نمو متواضع جدا، فإن الأزمة الاقتصادية العالمية لن تنتهي في العام المقبل، كما يتمنى العالم أجمع. فهناك مؤشرات تدل على أن المشهد الاقتصادي العالمي الصعب، سيتواصل حتى منتصف العقد الحالي. البعض يرى أنه سيكون حاضرا حتى نهاية هذا العقد. وبصرف النظر عن هذه التوقعات، لا تزال العوامل التي جلبت التباطؤ الاقتصادي الحالي، موجودة على الساحة، في وقت لا توجد فيه أي تحركات واقعية لاحتواء ما يجري على الساحة الاقتصادية العالمية، أي تأجيل الخلافات حتى يتمكن العالم من النجاة من وضع اقتصادي "سيأكل" كثيرا من المكتسبات على المدى المتوسط على الأقل.
لا شك في أن بقاء التباطؤ مستمرا طوال العام المقبل، سيكون بحد ذاته "إنجازا"، لكن مرة أخرى كل الدلائل تشير إلى ركود يصبغ عام 2023، إضافة طبعا إلى سلسلة من الأزمات المالية المختلفة، خصوصا في الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. هذه النقطة يركز عليها البنك الدولي، لأنها مربوطة بالطبع بسياسات التشديد النقدي التي تتبعها أغلبية البنوك المركزية، ولا سيما المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي". فأزمات الدول الناشئة والنامية، ستعطي مزيدا من الوقود للركود المتوقع على المستوى العالمي، وستزيد من مخاطر أزمة ديون جديدة لا يمكن للعالم بوضعيته الحالية تحملها بصرف النظر عن أي اعتبارات. المشهد في العام المقبل، سيحدد بالطبع الشكل العام للاقتصاد العالمي في الأعوام القليلة المقبلة، هذا الاقتصاد الذي يعيش حاليا على الحافة بين التباطؤ المخيف والركود المرعب.