لا حليف .. براغماتية أمريكية
ثمة مفارقة غريبة في موقف الإدارة الأمريكية، حين تزعم من جهة أن قرار "أوبك +" بخفض الإنتاج مليوني برميل يوميا يسهم في رفع أسعار الخام، لكنها في المقابل تبيع الغاز إلى حليفتها أوروبا بأسعار مرتفعة وصلت إلى أربعة أضعاف السعر المحلي، في تناقض جعل مسؤولين يعبرون عن ضيقهم حينما قالوا إن هذه الأسعار فلكية وخيالية. ازدواجية واشنطن تلك، تعبر عن براغماتية في مرحلة صعبة تجاه أقوى حليف بات في أمس الحاجة إلى هذه السلعة "الغاز"، ولا سيما أن الشتاء مقبل والطلب ملح لتغطية الاحتياج العالي مع تفاقم الأزمة الأوكرانية والوصول مع روسيا أكبر مصدر للغاز إلى طريق مسدود.
التململ والانزعاج الأوروبي من الولايات المتحدة بشأن أسعار الغاز الأمريكية المرتفعة، ليس جديدا. عبر خلال الأسابيع الماضية مسؤولون أوروبيون، ولا سيما في ألمانيا وفرنسا، عن استغرابهم من الارتفاع الكبير لأسعار الغاز الآتي من واشنطن، سرعان ما تحول إلى انتقادات علنية، على الرغم من أن كبار المسؤولين الأوروبيين التقوا الرئيس الأمريكي جو بايدن في غير مناسبة، وأثاروا هذه المسألة على كل المستويات، بينما تتفاقم الحرب الدائرة في أوكرانيا، التي كانت السبب الأول لاضطرار القارة الأوروبية إلى البحث عن مصادر أخرى "غير روسية" للطاقة بأنواعها بما في ذلك الغاز. وهذا الأخير يدخل ضمن الأمن القومي لكل دول الاتحاد الأوروبي، ليس فقط لأنه يستخدم مباشرة، بل لأن نسبة كبيرة من الطاقة الكهربائية تتم عبر حرقه. فأزمة الغاز "والطاقة عموما في أوروبا" بدأت تدفع الحكومات إلى طرح حملات ترشيد الاستهلاك، بل هناك مشاريع لتقنين الطاقة في فصل الشتاء، حيث ترتفع طبيعيا نسبة الاستهلاك.
لا شك أن الانتقاد "أو العتاب القوي" الذي وجهه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لواشنطن بهذا الخصوص كان الأقوى، ولا سيما أنه جاء علنيا، على منصة مؤتمر لرجال الأعمال عقد في باريس. جاء فيه، "نقول لأصدقائنا الأمريكيين، أنتم رائعون، تزودوننا بالطاقة والغاز، لكن هناك شيئا واحدا لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة، وهو أن ندفع أربعة أضعاف السعر الذي تقومون بالبيع به للصناعة لديكم. ذلك ليس المعنى الدقيق للصداقة". ويبدو واضحا أن ماكرون ما كان ليقول مثل هذا الكلام، لولا أن الجهود والاتصالات السياسية التي بذلت لخفض تكاليف الغاز الأمريكي فشلت طوال الأشهر القليلة الماضية. وطرح تساؤلات حول ماهية الصداقة في الوقت الراهن، لا يخدم في الواقع الجبهة الغربية ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل يجعل الأخير أكثر سعادة ـ إن جاز القول.
ألمانيا سبقت ماكرون في الانتقادات العلنية. فهذا البلد الذي يعد أكثر الدول الأوروبية تضررا من وقف الغاز والطاقة الروسية بمجملها، يعتقد كغيره من الدول الأخرى، أن أسعار الغاز الأمريكي فلكية حقا. ومرة أخرى أثارت برلين التساؤلات حول الصداقة مع الولايات المتحدة وطبيعتها ومخرجاتها وعوائدها. الكل يعلم أن بدائل الطاقة الروسية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي محدودة، والبديل الأمريكي محوري جدا على الرغم من أنه ليس مناسبا من الناحية اللوجستية بحكم البعد الجغرافي الهائل بين أوروبا والولايات المتحدة. لكن مع السعي إلى الحصول على إمدادات طاقة أكثر استدامة، كان لا بد من اللجوء إلى الإمدادات الأمريكية بصرف النظر عن أي اعتبارات. والمشكلة الآن تتفاقم أكثر، مع ارتفاع الطلب على الغاز الأمريكي وغيره، مع حلول موسم زيادة استهلاك الطاقة عموما.
اللافت أن حجم شحنات الغاز الطبيعي المسال، الذي تصدره الولايات المتحدة إلى أوروبا، تجاوز في يونيو الماضي كمية الغاز الذي ترسله روسيا إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب. علما بأن موسكو كانت تشحن قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا نحو 150 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى أوروبا سنويا، إضافة إلى كمية أخرى من الغاز المسال تراوح بين 14 و18 مليار متر مكعب. أي أن الاتحاد الأوروبي صار في النهاية يعتمد بقوة على الإمدادات الأمريكية، التي من الطبيعي أن تنخفض أسعارها حتى بحكم ارتفاع كميات الغاز، وفق مفهوم السوق في أي مكان. لكن المؤكد أن مفهوم تعزيز التحالفات والتكتلات يحتاج إلى قرارات من نوع آخر تأخذ في الحسبان مصالح طرفي التحالف، فالمسألة تتعلق بحلفاء استراتيجيين، إلا أن الواضح أن واشنطن لا تتعامل معها، وفقا لهذا المفهوم الذي هو على الأرجح خارج حسابات الإدارة الأمريكية في الفترة الحالية.