رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


حرب الطاقة الروسية - الغربية

تقود الحروب غالبا إلى آثار كارثية في الأمم بسبب سوء التقديرات، وأخطاء حسابات المنافع والخسائر. وأنتجت الحرب الأوكرانية حرب طاقة عالمية، وأظهرت سوء تقديرات الغرب والروس حول العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الطرفين.
وطدت أوروبا علاقاتها الاقتصادية مع روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وتوسعت فيها على افتراض زوال تهديدات روسيا وخطرها الاستراتيجي لأوروبا. وعززت أوروبا علاقاتها ومنافعها الاقتصادية مع روسيا لرفع تكلفة النزاعات ودفعها إلى الحرص على السلام وتجنب الحروب. وأدت هذه الافتراضات إلى زيادة اعتماد أوروبا على مصادر الطاقة الروسية حتى أضحت تمثل جزءا أساسيا من استهلاكها. ارتفع نصيب الغاز الطبيعي الروسي في إجمالي استهلاك أوروبا إلى نحو 40 في المائة، ووصلت حصته في استهلاك عملاق أوروبا الاقتصادي ألمانيا إلى 55 في المائة، وإلى 70 في المائة في بلغاريا. وتجاوزت حصص الغاز الروسي أكثر من 90 في المائة من استهلاك فنلندا والبوسنة ومولدافيا.
في المقابل، دفعت زيادة اعتماد أوروبا على مصادر الطاقة الروسية، إلى خفض تقديرات روسيا لمدة وحجم ردة الفعل الأوروبية لتدخلها في أوكرانيا. لكن الدول الأوروبية رأت في الهجوم الروسي على أوكرانيا تهديدا خطيرا لأمنها يستدعي اتخاذ أقسى الإجراءات الممكنة تجاه روسيا، حتى لو تطلب الأمر تراجع اقتصاد أوروبا لبعض الوقت. ونتيجة لذلك، ولدت الحرب تحولا استراتيجيا في سياسات أوروبا والغرب بوجه عام تجاه روسيا، يخفض الاعتماد عليها ويشكك في نياتها. وليس من المتوقع أن تعود أوروبا مجددا إلى رفع اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية، أو توطيد العلاقات الاقتصادية معها. وبذلك خسرت روسيا معظم مكاسبها الاقتصادية التي حصلت عليها خلال العقود الثلاثة الماضية مع الغرب وأوروبا على الخصوص، كما خسرت أوروبا منافعها الاقتصادية من التجارة مع روسيا.
تحاول أوروبا التأقلم مع انقطاعات الغاز الروسي وشح إمداداته من خلال سياسات متعددة. ومن أبرز تلك السياسات استبدال الطاقة الروسية بمصادر أخرى، وخفض الاستهلاك بنسبة 15 في المائة من خلال بعض الإجراءات التي يتصف بعضها بالرمزية كإطفاء أنوار المباني الحكومية والشوارع ولوحات الإعلانات أو خفض درجات التدفئة إلى 17 درجة مئوية أو خفض استهلاك المياه. كما تنوي الحكومات الأوروبية دعم المستهلكين لخفض أعباء ارتفاع أسعار الطاقة على الأسر، وفي الوقت نفسه رفع الضرائب على أرباح شركات الطاقة المستفيدة من ارتفاع الأسعار الحاد. وتضاعفت أسعار الغاز الطبيعي والكهرباء بنحو عشرة أضعاف عما كانت عليه قبل الحرب الأوكرانية.
وصلت حرب الطاقة الروسية - الغربية إلى منعطف خطير مع تفجير أنابيب الغاز الطبيعي الروسية في بحر البلطيق، التي ستوقف إمداداتها لفترة لا تقل عن ستة أشهر وربما للأبد. وهذا سيعمق أزمة الغاز الطبيعي في أوروبا ويدفع بأسعاره إلى مستويات مرتفعة جدا مع قدوم فصل الشتاء. ويكيل الجانبان الروسي والغربي الاتهامات بالمسؤولية عن تفجير الأنابيب، التي يبدو أنها عملية متقنة قامت بها دولة أو مؤسسات دولة محترفة يصعب اكتشافها. ومن الناحية الاقتصادية يصعب قبول مسؤولية الجانب الروسي عن الانفجار، لأنها لو أرادت وقف الإمدادات لأوقفت ضخ الغاز من مصدره دون عناء، إلا إذا كان الهدف إيجاد شقاق وشرخ عميق في العلاقات الأوروبية والأمريكية، لأن أصابع الاتهام موجهة إلى الولايات المتحدة.
من شبه المؤكد أن حرب الطاقة الحالية ولدت وستولد تحولات مهمة في تدفقات الطاقة العالمية، حيث ستتراجع إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا، في المقابل سترتفع إليها إمدادات الطاقة من أمريكا الشمالية وأماكن أخرى. وأدت ثورة النفط والغاز الصخري في الولايات المتحدة وكندا إلى قفزات في إنتاج الدولتين وصادراتهما من النفط والغاز. وقد يكون هذا أبرز الأسباب التي تدفع الولايات المتحدة للتشدد مع روسيا، وحث أوروبا على خفض وارادات الطاقة منها. كما ستجبر أزمة الطاقة أوروبا على إعادة توزيع مصادر الطاقة الخارجية إلى دول آمنة استراتيجيا. ومن المتوقع أيضا إعادة النظر في سياسات القارة الصناعية وخفض كثافة استخدام الطاقة والتخلي عن بعض الصناعات أو نقلها إلى دول صديقة.
إضافة إلى الغاز الطبيعي، تستورد أوروبا من روسيا خمس استهلاكها النفطي قبل الأزمة، لكن تعويض مصادر النفط أيسر، حيث تتوافر مصادر أخرى متعددة يمكن التحول إليها بسهولة. ومن المؤكد أن تخفض أوروبا وارداتها من النفط الروسي وترفع وارداتها من دول أخرى. من ناحية أخرى، سيقود التغير في علاقات الطاقة الدولية إلى خفض استثمارات شركات الطاقة الغربية في روسيا، ما سيؤثر في مسار إنتاجها المستقبلي. كما سترفع الدول الأوروبية وتيرة التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة لخفض الاعتماد على المصادر الخارجية.
ستتعزز أهمية منطقة الخليج للعالم الغربي مع تراجع اعتماده على الطاقة الروسية، ما يوفر فرصا تاريخية لحصول المنطقة على منافع اقتصادية إضافية من تلك الدول. وسترتفع أيضا أهمية دول أخرى منتجة للنفط والغاز من أبرزها فنزويلا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي